من صومعة الورق إلى فضاءات الشاشات المتلألئة وموجات الأثير المسموعة، يتخذ الكتاب صوراً متنوعة هي انعكاس طبيعي لروح هذا العصر الذي لم يعد فيه الحبر هو السيد الأوحد، ولم تعد رفوف المكتبات هي المستقر الأخير للإبداع.
ووسط هذه التحولات التي يشهدها عالم النشر، تقف الجوائز الأدبية لترقب ما يعصف بالتقاليد الراسخة، متمسكة بالمنتج الورقي، ووفية له بوصفه معياراً وحيداً للجودة والاحتفاء، ما يطرح سؤالاً ملحاً على الأذهان بخصوص كيفية تعاطي الجوائز الأدبية مع هذه التحولات الجذرية.
وفي هذا الاستطلاع، استكشفت «البيان» تفاصيل هذه القضية، وتعرفت إلى آراء نخبة من المثقفين من عالم الكتابة والنشر، محاولةً استشراف مستقبل تتداخل فيه أشكال التعبير وتتغير فيه معايير التقييم.
وأوضح راشد الكوس، المدير التنفيذي لجمعية الناشرين الإماراتيين، أن لجان تحكيم الجوائز الأدبية تنظر دائماً إلى الكتاب بوصفه محتوى متكاملاً وصورة ذهنية يبنيها القارئ، مشيراً إلى أن ذلك هو السبب وراء عدم وجود جوائز خاصة بالكتب الصوتية أو الرقمية، وإنما تمنح الجائزة للكتاب الورقي.
وقال: «تتفاعل عناصر محتوى الكتاب الورقي من كلمات ورسوم، ويعيش القارئ في تفاصيل هذا الكتاب بتصور معين»، لافتاً إلى أن دور الكتاب الصوتي مقتصر على شغل الفراغ وقت ممارسة الرياضة أو قيادة السيارة، كما أن الكتاب الرقمي يسهل الوصول إليه في أي مكان كالطائرة وغيرها.
جوهر العمل
وأكد البروفيسور ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، أن أهم ما يعني المحكمين هو البحث عن الرواية المتميزة بصرف النظر عن كونها ورقية أو رقمية، معتبراً الصيغة المعروض بها العمل الأدبي قضية لا تمس جوهر عمل اللجان، وإن كان يجري التعامل معها.
وقال: «في بداية انطلاق الجائزة العالمية للرواية العربية، كان تعاملنا دائماً مع الكتاب الورقي، ولكن الآن نتعامل بين الفينة والأخرى مع الكتب الرقمية، عندما يتعذر حصولنا على الكتب بصيغتها الورقية.
أو إذا فضل أحد المحكمين قراءة العمل رقمياً»، مستبعداً التعامل مع الكتب الصوتية التي لا تمنح المحكمين إمكانية الوقوف على بعض المواضع والعودة إليها ومناقشتها.
ورأى سليمان أن ثمة مخاضاً عظيماً تمر به صناعة النشر عالمياً ويفرض تحولات كبيرة على المشهد الثقافي، مشدداً على ضرورة أن تتعامل لجان تحكيم الجوائز الأدبية مع تلك التحولات بذكاء وإصرار على أن تكون الملكية الفكرية لصاحبها الحقيقي لا لجهات تدعي نسبة العمل إليها بشكل أو بآخر.
معايير جديدة
ولفتت الدكتورة فاطمة البودي، المؤسِّسة والمالكة لدار «العين» للنشر، إلى أنه لا يوجد حتى الآن جوائز أدبية تخص الكتب الرقمية؛ لأن ما هو رقمي سبق أن كان منشوراً ورقياً.
مؤكدةً أن الجودة هي التي توصل الكتاب إلى الفوز بالجائزة مهما تكن صيغته، وأنه ربما تخترع فيما بعد جوائز تقيم الكتاب المسموع بالنظر إلى الصوت والمؤثرات.
وعن رأيها في مدى ضرورة إيجاد معايير جديدة ورؤى مبتكرة لتعامل الجوائز الأدبية مع تحولات النشر، قالت: «بالتأكيد؛ لأن كل القضايا التي نعايشها الآن بهذا الخصوص سيعتريها التغيير الجذري خلال السنوات العشر المقبلة، ولا سيما مع الانتشار الواسع في استعمال الذكاء الاصطناعي الذي صعب إمكانية التمييز بين الأصيل والمزيف».
نموذج محبب
وبينت مروى ملحم، كاتبة ومحررة ضمن فريق البرامج لدى مؤسسة الإمارات للآداب، وضمن اللجنة العلمية في قمة دبي الدولية للمكتبات والنشر 2025، أن الكتب الرقمية والصوتية لا تزال ضيوفاً على عالم النشر في الوطن العربي، مؤكدةً أن الكتاب الورقي يبقى هو سيد المشهد والنموذج المحبب في معارض الكتب وكذلك الجوائز الأدبية.
وأشارت مروى إلى أنه في ظل هذا الواقع المتغير، ليس مستبعداً أن تتبدل الأمور وتتحرك صناعات النشر بشكل ما، فقد يشهد المستقبل اهتماماً أكبر بالكتاب الرقمي بحيث لا يصدر ورقياً، موضحة أن هذا ربما يؤهله حينها ليتم تبنيه ضمن الجوائز الأدبية ضمن صيغة لها قوانينها المحددة.
