في العشرين من نوفمبر من كل عام، يرتدي العالم حُلّة البراءة، ليحتفل بيوم الطفل، مُجدِّداً العهد لأجيال الغد. لكن هذه الاحتفالية السنوية، هذا العام، تحمل في طيّاتها سؤالاً يلامس قُوت أطفالنا الفكري والوجداني: ما مصير الحكاية حين يُمسك الروبوت بالقلم، وحين تتحوّل الصفحات الورقية إلى وميض شاشات؟.
لقد طوى العصر الرقمي صفحات الماضي بعنفوانه، ليجد أدب الطفل نفسه في مفترق طرق لم يشهده من قبل. فبين سحر الورق الملموس، ودفء صوت الأم وهي تقرأ قصة ما قبل النوم، يبرز التحدي الأكبر الذي يواجه صمود هذا الأدب أمام زحف ثورة الرقمنة، التي جعلت من القصص ألعاباً تفاعلية.
«البيان» طرحت المسألة على نخبة من الكتَّاب، الذين سيشاركون في النسخة الـ 18 من مهرجان طيران الإمارات للآداب، وأتاحت أمامهم المجال ليناقشوا هذه المعضلة الأدبية والتكنولوجية، موضحين ملامح المستقبل الذي ينتظر أدب الطفل، كما يرونها، في زمن تتشابك خلاله الخوارزميات مع الخيال، لتمنح الطفل تجربة قراءة لم يحلم بها.
وأكدت نورة الخوري، كاتبة ومترجمة في أدب الطفل، أن الثورة الرقمية تقدّم لسوق النشر والكتب أدوات فعّالة، من شأنها أن ترفع مستوى جودة الكتب، سواء أكانت ورقية أم رقمية، وتساعد على السرعة في إصدارها، منوهةً بما يشهده الواقع الراهن من تنوع حيوي في مجالات القصص والإبداع الفني في كتب الأطفال.
وقالت: «ما دام الأطفال يقرؤون، سنظلّ نكتب لهم. القصة هي أصل المتعة مهما كانت صيغتها، هي شرارة الإمتاع الأولى للطفل منذ بداية نبضه، ونأمل أن يظلّ شغف الأطفال للقصة والقراءة ينمو معهم»، موجهةً خطابها إلى أطفال العالم: «أنتم شعلة الحب التي نكتب من أجلها. نودّ رؤية الابتسامة على وجوهكم دوماً، ونستمتع بكتابة القصص الجميلة والمثيرة من أجلكم».
معركة مستعرة
وأوضح الدكتور محمد فتحي، كاتب أطفال وأكاديمي وشريك مؤسس لدار أرجوحة للنشر، أن أدب الأطفال يحتاج إلى مزيد من التحرر في مستقبله، مشيراً إلى أنه في ظل معركة مستعرة بين الكتاب و«التاب»، يبدو التحدي في أدب الطفل أن يكون ممتعاً كلعبة، ومفيداً كماء لا يستطيع أطفالنا الاستغناء عنه.
ورأى أن أدب الطفل ربما يحتاج إلى اختيار وسائط جديدة لنشره إلى جانب الكتاب، وأنه ربما يتعين على كتَّاب أدب الطفل أن يعرفوا أن الجيلين: «ألفا» و«بيتا»، اللذين يخاطبونهما، يحتاجان إلى ما هو أكبر من الكتابة في اتجاه واحد، لافتاً إلى ضرورة الكتابة التفاعلية، وابتكار قوالب جديدة، تجعل القراءة تجربة تفاعلية تستفيد من الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
ووجَّه الدكتور محمد رسالة إلى أطفال العالم، قائلاً: «أنتم في عالم جميل، فاستمتعوا به، ولا تختصروه أبداً في مجرد شاشة، ولا تتعاملوا مع حياتكم كلعبة إلكترونية لا تنتهي، بل كفرصة حقيقية، لتعرفوا أكثر مما عرفنا، وتكونوا أفضل من أجيال سبقتكم، وتتركوا بصمتكم في هذا العالم. باختصار: كونوا أنتم، واغتنموا فرصة هذا الزمن لتعرفوا أكثر، لا لتهربوا من المعرفة».
مشاهد مبتكرة
من جانبها، قالت صفية الشحي، كاتبة وإعلامية ومتخصصة في التواصل والتسويق الشخصي: «في أحد الأيام شاركتني ابنتي ذات العشر سنوات لوحة قامت برسمها بقلم الرصاص، وقررنا أن نطلب من أداة الذكاء الاصطناعي التعامل معها بأساليب مختلفة، تحسينها أو تحويلها إلى مشاهد قصصية مبتكرة، والنتيجة كانت جميلة جداً».
ولفتت صفية إلى أن هناك فرصاً لا محدودة للتعلم والابتكار باستخدام هذه الأدوات، بشرط أن يكون أطفالنا مزودين بما يكفي من الوعي بالمخاطر والإيجابيات، على حد سواء، بحيث يتمكنون من الانتباه إلى بعض الأشياء التي قد لا تكون مناسبة أو صالحة، مقابل كل هذه الفرص التي لا تقدَّر بثمن»، مؤكدةً أهمية التحضير المرتبط بالوعي، وطرح الأسئلة والتفكير النقدي، وإدراك أن الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يجعل أطفالنا أكثر قدرة على التعامل مع التحديات في المستقبل القريب.
وأضافت: «ربما من أهم الأشياء التي أود التحدث عنها، عندما أفكر في أطفالي وأطفال العالم عموماً، أهمية أن نتحول نحن الآباء إلى موجهين وقادة في حياتهم، بحيث يمكن أن نقدم لهم أفضل النماذج التي يمكن أن تعينهم على اتخاذ قرارات أفضل لمستقبلهم، أريد لأطفالنا ألا يتوقفوا عن طرح الأسئلة، والتعامل بفضول عمَّا يحدث حولهم».
وأردفت: «أريد ألا يترددوا في التحدث بشجاعة عمَّا يحدث في دواخلهم، ومشاركة أحلامهم مع الآخرين، وأن يتعاملوا بشجاعة كبيرة مع الأشياء التي تخيفهم أو تقلقهم، ويحوّلوا تلك المناطق المجهولة كلها إلى فرص للإبداع، وإضافة المزيد من الجمال في عالمنا.
أريد لهم ألا يخجلوا من صعوبات التعلم التي يواجهونها كل يوم، وألا يصابوا بالإحباط أو التردد أو الانطواء، لمجرد أنهم لا يشبهون الجميع من حولهم، قد لا يكون طفل ما مبدعاً في مادة تعليمية معينة، لكن يكفي تماماً أنه يبذل ما يكفي من الجهد، ليخوض تجربة التعلم المذهلة».
آفاق واسعة
وأكدت الدكتورة بشاير سليمان العطروزي، استشاري تربوي ومدير مركز ثوتس للخدمات الثقافية، أن مستقبل أدب الطفل في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، يحمل آفاقاً واسعة للتطور والإبداع، إذا وُجّه بتوازن توجيهاً تربوياً وإنسانياً.
وإذا راعى الخصائص النمائية والعمرية لدى الأطفال، موضحةً أن الطفل اليوم لم يعد قارئاً فحسب، بل شريكاً في صناعة القصة، وتشكيل أحداثها عبر الوسائط التفاعلية والتقنيات الذكية، التي تفتح أمامه مساحات جديدة للتعبير وتطوير مهاراته.
وقالت: «للحصول على اهتمام الطفل وجذب اهتمامه للكتاب، لا بد من تحقيق توازنٍ واعٍ بين عالم الطفل الرقمي وعالم الكتاب الورقي، فاستقطاب انتباهه في ظل زخم التكنولوجيا، يتطلب منا أن نقترب من بيئته الجديدة، ونتحدث بلغتها، لنغرس في وجدانه حب القراءة والهوية العربية، من خلال قوالب إبداعية تجمع بين جاذبية الوسائط الحديثة ودفء الورق، وبين سرعة التقنية وعمق الثقافة».
وأضافت: «يبقى التحدي الحقيقي أن نحافظ على الروح الإنسانية والوجدانية للكتاب الورقي، وسط هذا الزخم التقني، في مرحلة الطفولة المبكرة، ما بين سن الثالثة والخامسة، التي هي ليست مجرد وسيلة رقمية، بل جسر يصل الطفل بجذوره.
ويوقظ في داخله الخيال، فلا نستعجل نموه مع تقنيات الواقع المعاصر، وبالأخص في هذه المرحلة، التي يعيش فيها طفولته، بلعبها وشغبها، باذلاً طاقته الجسمية والنفسية في اللعب والحركة والتواصل والتفاعل مع الآخرين، وفي تلقي العلم والمعرفة».
ولفتت إلى أن الاستعجال قد يأتي بنتائج عكسية تسرق من الطفل الفكر والخيال، ويُبطل لديه الرغبة في الاكتشاف، ويعوّده على الكسل، ويقضي على الابتكار والإبداع، ويصيبه بأمراض نفسية وصحية واجتماعية.
مشددةً على ضرورة الموازنة بين الكتاب الورقي وأدوات التقنية، وبين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني في دعم تطور الطفل ومهاراته بطرق آمنة وفعالة، تجمع بين متعة اللعب وعمق المعرفة، وبين أصالة الورق وسحر الشاشة، في تناغم يثري خيال الطفل.
وخاطبت الدكتورة بشاير أطفال العالم قائلةً: «أنتم الحلم الذي يلوّن الغد، وبكم تزهر الحياة أملاً وتُزداد إنجازاً ونجاحاً. احلموا بجرأة، وامضوا لتحقيق أحلامكم، ولا تسمحوا لأحد أن يُطفئ فيكم وهج الطموح، فكل فكرة تولد في خيالكم قادرةٌ على أن تُغيّر العالم. تخيّلوا، وابتكروا، واستمروا، فالعالم ينتظر لمساتكم الملوّنة وبصماتكم الفريدة».
وتابعت: «في مركز ثوتس، نؤمن أن لكل طفل صوتاً يُسمع، وقصةً تُروى، ومساحةً آمنة ينمو فيها بحرية وإبداع. احلموا وآمنوا بأحلامكم، فالغد يُكتب بأيديكم أنتم، وبكم نصنع المستقبل».
فرص إبداعية
الكاتبة حصة المهيري بينت أن ثورة الرقمنة والذكاء الاصطناعي قد تفتح أبواباً جديدة، وفرصاً إبداعية رائعة لأدب الطفل، إن أجدنا استخدامها، وذلك على الرغم من تخوف الكثيرين من تبعاتها.
ولذا، فإنها تعتقد أنه ليس علينا محاربة التطور، بل مواكبة الأجيال الجديدة، ومحاولة مجاراتهم في ملعبهم، مشيرةً إلى أن وجود التقنيات الحديثة لا يلغي الدور المهم للكتَّاب والرسامين.
وأكدت أن التقنية الحديثة تدعم الإبداع، وتعزز ابتكار أساليب تفاعلية تحبّب الأطفال بالكتب والقراءة، وتجعلهم جزءاً لا يتجزأ من الحكاية، وأنها وسيلة وأداة، ومن ثم فالكتَّاب والرسامون هم من يشكلون المعنى الحقيقي لأدب الطفل، ويحافظون على جوهره، مضيفةً:
«أود أن أرسل رسالة ملهمة إلى أطفال العالم، وأقول لهم: نحن نؤمن بإبداعكم وقدرتكم على إطلاق العنان لخيالكم، كل فكرة صغيرة تخطر في بالكم هي في الحقيقة بذرة لشجرة مثمرة».
وتابعت: «نثق تماماً بأنكم ستبهروننا بمواهبكم التي ستجعل المستحيل ممكناً، ولا تجعلوا الوقوع في الخطأ عائقاً لكم، فكل تجربة نمر بها تُعدّنا لغدٍ أفضل، نحن هنا لتمهيد الطريق لكم بقصةٍ أو لوحة، آملين أن نكون جزءاً من حاضركم، ولكن لا تنسوا أنكم أنتم مستقبلنا المنتظر وحلمنا الواعد».
