حين يتحول الفن إلى لغة حضارية قادرة على الجمع بين التراث والحداثة يخلق تجربة بصرية استثنائية تعبر حدود الزمان والمكان، وهذا ما يقدمه الفنان العالمي مجيد أحمدي في مسيرته الفنية التي تمتد لأربعين عاماً، عبر أسلوبه الفريد الذي يمزج المنمنمات بالواقعية والخط العربي ليصوغ هوية تشكيلية متفردة.

وقال مجيد أحمدي لـ«البيان»: «الموهبة الفنية، منذ القدم، تعتبر من أعجب القدرات الإنسانية. الباحثون يقولون إن الفن جزئياً يرجع للجينات، لكن البيئة أو التربية لها دور كبير. منذ كنت طفلاً، الرسم والخط لم يكونا عندي مجرد هواية، بل هما نافذتان لعالم ثانٍ.

أتذكر أيامي في مرحلة الدراسة الابتدائية، كنت مفتوناً بجمال الرسم والخط وصناعة الحروف الجميلة باستخدام القلم واللون. أول تجربة لي كانت برسم منظر بسيط لشاطئ البحر، لكن مع الأيام صار هذا الشغف مسار حياتي الجدي.

الذي جذبني من البداية هو القوة الداخلية التي كنت أحسها في الفن. كلما أشاهد عملاً فنياً أمامي أحس بفرح لا يوصف، كأني أنفصل عن الزمن ويقف الوقت كله. هذي القوة هي التي جعلتني أعيد تشكيل العالم بنظرة مختلفة».

أسلوب جديد

وعن أسلوبه في المزج بين المنمنمات والواقعية والخط العربي، قال: «في بداية مسيرتي المهنية، لم تكن لدي نية لابتكار أسلوب جديد، غير أن في داخلي قوة دفعتني إلى اختيار أجمل وأقوى العناصر من الفنون ودمجها في أعمالي.

فالأسلوب الذي نشأ من مزج الواقعية بالمنمنمات، ومن الجمع بين فن الخط والمنمنمات والتذهيب، لم يكن وليد اللحظة، بل كان حصيلة سنوات طويلة من البحث المتواصل في أعمال كبار الفنانين، وخلاصة تجارب مضنية وصعبة مررت بها».

وتابع: «كنت على الدوام أفتش عن لغة جديدة تعبر بصدق عن مشاعري، لغة ضاربة بجذورها في التراث، ولكنها في الوقت ذاته قادرة على مواكبة روح العصر وتلبية مختلف الأذواق.

وعندما ظهرت هذه اللغة الفنية لأول مرة نظر إليها الناس على أنها غريبة وغير مألوفة، إذ جمعت بين أربعة ميادين فنية متباينة، وهو أمر يتطلب دقة بالغة وشجاعة كبيرة».

وأضاف: «لقد تمثل أكبر تحدٍ أمامي في أن يجد هذا الابتكار مكانه وسط بيئة فنية تميل إما إلى التقليدية البحتة أو إلى المعاصرة المطلقة. ومع مرور الوقت تحول هذا الأسلوب إلى بصمة تميز أعمالي وتعكس شخصيتي الفنية، غير أن الطريق لا يزال طويلاً، والعمر قصير، وما تبقى من المسيرة إنما هو أمانة تنتقل إلى الأجيال القادمة لتكمل ما بدأناه وتضيف إليه».

محطة وفرصة

وعن المعارض التي أثرت في مسيرته، قال: «خلال أربعين عاماً من مسيرتي الفنية أقمت معارض عديدة ومتنوعة، غير أنه لو طلب مني اختيار محطة مفصلية شكلت نقطة تحول في حياتي الفنية فلن أتردد في ذكر معرض عام 1993 في أبوظبي.

فهذا المعرض لم يكن مجرد مساحة لعرض أعمالي، بل كان فرصة حقيقية لتقديم فني إلى العالم العربي، ولإدراك الكيفية التي يمكن أن يغدو فيها الفن جسراً للتواصل الثقافي وأداة من أدوات الدبلوماسية الناعمة».

وأردف: «لقد حظي ذلك المعرض باهتمام واسع من وسائل الإعلام، كما استقطب شخصيات بارزة في المشهد الثقافي والاجتماعي، الأمر الذي انعكس على مساري المهني بشكل كبير.

وجعلني أعي أن للفن رسالة أبعد من حدود اللوحة والإطار، وأنه قادر على التأثير في تشكيل الروابط وتعزيز الحضور الثقافي على المستويين المحلي والإقليمي».

وعن تجربته في عالم الموسيقى والسينما الوثائقية وكيف انعكست على أسلوبه التشكيلي، قال: «الفن على امتداد التاريخ الإنساني لم يكن وسيلة للترفيه أو سعياً وراء الجمال فحسب، بل هو لغة سامية يعبر من خلالها الإنسان عن أعمق مشاعره وأفكاره وأكثرها صدقاً.

ولعل الموسيقى، وبوجه خاص آلة الناي، إلى جانب تجربتي في إخراج الأفلام الوثائقية ذات الطابع الثقافي والفني، قد أضافت أبعاداً غنية لرؤيتي التشكيلية وأسهمت في صقل نظرتي إلى عالم الرسم، لقد علمتني الموسيقى كيف أرى الإيقاع والتناغم في توزيع الألوان والخطوط على سطح اللوحة، تماماً كما تتناغم النغمات لتشكيل لحن متكامل. أما السينما.

فقد منحتني رؤية أعمق لمعنى السرد والبنية الحكائية داخل العمل الفني، وكيف يمكن للصورة أن تحمل حكاية، وللتفاصيل أن تتحول إلى مشاهد ناطقة بالمعنى. ومن هنا، لم يعد العمل التشكيلي عندي مجرد صورة صامتة، بل أصبح قصة متكاملة تحمل في طياتها موسيقى داخلية خفية، تترجم أحاسيسي وتبث روحها في عين المتلقي وقلبه».

الرسم والموضة

وعن مشروعه مع زوجته في تصميم الأثواب المستوحاة من المنمنمات، قال: «كان مشروعي مع زوجتي في مجال تصميم الأزياء تجربة جديدة ومميزة، إذ جمع بين فن الرسم وعالم الموضة، سعينا من خلاله إلى نقل جماليات المنمنمات والزخارف الإيرانية من اللوحات إلى قطع الملابس، وتحويل الأزياء إلى أعمال فنية حية.

وكان التحدي الأكبر أمامنا هو كيفية تحقيق التوازن بين أصالة الفن وجمالياته من جهة، وبين عملية ارتداء الملابس وراحتها من جهة أخرى. وقد أثبتت هذه التجربة أن الفن قادر على كسر حدوده ليصبح جزءاً من الحياة اليومية للناس، فالأذواق متباينة ومتنوعة، وعالم الفن نهر عذب عميق يروي عطش الجميع».

واختتم حديثه برسالة إلى الأجيال، حيث قال: «رسالتي إلى الجيل الجديد أن الفن ليس مجرد مهنة أو مهارة، بل هو طريق لفهم الذات والعالم. وعليهم أن يدركوا جذورهم الثقافية، ويواصلوا التجربة والابتكار.

إن الوفاء للأصالة مقرون بالجرأة على التجديد، وهو ما يجعل الفن مميزاً ومؤثراً. أما التقليد فقد ينفع لفترة قصيرة، لكنه في النهاية يقتل روح الإبداع. والفنان الشاب اليوم ينبغي أن يتعلم كيف يوظف الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا لخدمته، لا أن يكون أسيراً لها. وبرأيي، إذا كان الفنان صادقاً مع نفسه، وعمل بجهد وإصرار فإنه قادر على أن يخلق عالماً جديداً».