السرد الوثائقي نوع أدبي حديث نسبياً، ينهض على المزج بين التخييل الأدبي والوثائق التاريخية أو الواقعية، مثل المذكرات والرسائل والأرشيف والصحف، ليمنح النص بُعداً مضاعفاً من المصداقية، إنه حقل يختلط فيه صوت المؤلف مع صوت الشاهد، والوقائع الثابتة مع الخيال الذي يعيد بناءها فنياً، ليصبح جوهر هذا السرد هو إدراك أن الحقيقة لا تُروى وحدها.
وكذلك الخيال الذي يفتقر إلى الوثوقية، لذلك يولد النص من التقاء الاثنين: الوثيقة تضمن الواقعية، والسرد يمنحها الروح والمعنى.. وهكذا يصبح القارئ أمام نص لا يكتفي بالمتعة الجمالية، بل يضعه في مواجهة التاريخ والذاكرة والحدث الحي.
في دولة الإمارات هناك نماذج روائية من الممكن أن نشير إليها كتجارب تستند إلى الرسائل والمذكرات البحرية أو السجلات الاستعمارية، أو حتى الحكايات الشفاهية المعتمدة القريبة، لتعيد بناء الحكايات التي عاشها البحارة والغواصون أو أهل الحضر والبادية، فمن هؤلاء الروائيين الذين وظفوا الوثيقة التاريخية أو الموروث الأرشيفي لبناء نصوصهم، الروائية وداد خليفة.
ومثال ذلك روايتها «زمن السيداف»، واستحضارها المعاناة من خلال حكاية طفلة مسروقة، وفكرة العبودية في النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك استعادتها تاريخ الغوص واللؤلؤ وعذاب الرحلات البحرية. أما مريم الغفلي في رواياتها «ظل الياسمين» فاستحضرت ذاكرة المكان والعائلة.
واستندت غالباً إلى روايات شفهية ومرويات عائلية، ما يمنح نصوصها طابعاً وثائقياً في معالجة تحولات المجتمع المحلي، فيما نجد سلطان العميمي، في رواية «ص. ب: 1003»، يجدد تاريخ البريد والرسائل الورقية من خلال نصه وشخوصه، معالجاً الرواية بوثائقه، فهو باحث ولديه كتب بحثية مهمة.
السرد الوثائقي حاضر في الأدب الإماراتي، سواء من خلال توظيف المخطوطات والخرائط أو عبر استدعاء المرويات الشفهية العائلية والاجتماعية أو حتى في التجارب التي تمزج بين الشهادة الفردية والتاريخ الجمعي، كل ذلك منح الأدب الإماراتي قوة، فهو من جهة يحمي النص من السقوط في الخيال المنفصل عن الواقع، ومن جهة أخرى يحرر الوثيقة من جفافها ليمنحها حياة جديدة.
وكأنه يذكر القارئ بأن التاريخ ليس ما يُكتب في الكتب الرسمية فقط، بل ما يستعاد في الحكايات الشخصية، وما تعاد صياغته في النصوص الفنية، وتكمن قوته أيضاً في أنه يفتح باب التساؤل: أيهما الأصدق، الوثيقة أم السرد؟ وأيهما أقرب إلى الحقيقة، النص الجاف أم النص المؤوّل؟
وبذلك يتحول الأدب إلى مساحة للبحث عن المعنى، لا مجرد استعادة لأحداث ماضية، وهذا المعنى يعلمنا أن الحقيقة لا تكتمل إلا حين تُروى مرتين، مرة في الوثيقة، ومرة في الأدب، وبين الروايتين، يولد النص الذي يملك أن يقنع ويدهش معاً، والتجارب تبين أن السرد الوثائقي ليس مجرد استعارة من الماضي، بل هو إعادة قراءة للتاريخ من خلال الحكاية، فالأرشيف لا يظل جامداً في رفوف المكتبات، بل يصبح حياً حين يُكتب من جديد في نص أدبي، ويبقى السرد الوثائقي مساحة مزدوجة.