في المشهد الثقافي الإماراتي، باتت أندية القراءة والملتقيات الأدبية واحدة من أبرز الظواهر التي تستقطب جمهوراً واسعاً من مختلف الأعمار والخلفيات، والتي لا تقتصر نشاطاتها على تبادل الكتب لقراءتها أو تلخيصها فحسب، بل تحولت إلى منصات للتفاعل، والحوار، وبناء الوعي الثقافي والاجتماعي.
علاقات إنسانية وصداقة حقيقية بين أعضاء أندية القراءة
وانطلاقاً من دورها في متابعة الحراك الثقافي، قامت «البيان» برصد هذه الظاهرة من خلال استطلاع لأحد الملتقيات الأدبية ليكون نموذجاً وتم طرح السؤال الجوهري التالي: ما الذي يجمع أعضاء أندية القراءة والملتقيات الأدبية؟ هل هو الشغف بالكتب، أم الحاجة إلى الحوار، أم أن الأمر يتجاوز ذلك ليشكل منظومة متكاملة من الأهداف والتجارب؟
تؤكد داليا أبو العطا، المؤسسة والرئيسة لنادي «ملتقى الراويات»، أن ما يجمع الأعضاء يتجاوز حدود الشغف أو النقاش. وتقول: «لقد طورنا مفهوم نادي القراءة ليصبح مزيجاً من الحكاية والمناقشة. لا نكتفي بقراءة كتاب وتحليله، بل نضيف بعد الحكاية.
حيث تروي إحدى العضوات قصة أو رواية قبل مناقشتها». وتشير إلى أن الملتقى يسعى إلى الارتقاء بالوعي الثقافي للمرأة عبر مبادرات نوعية، مثل «كيف نقرأ» لتعليم مهارات النقد الأدبي، و«كنوز التراث» لإحياء التراث العربي القديم، إضافة إلى «لقاء مع كاتب» الذي يربط القارئ بالمبدع مباشرة.
وتضيف: «ما يجمعنا ليس مجرد حب القراءة، بل منظومة متكاملة من التفاعل والابتكار، تمتد إلى تنظيم ورش عمل، وندوات، ورحلات تثقيفية وترفيهية، فضلاً عن أنشطة مثل «سينما الراويات» لتحليل الأعمال السينمائية والمسرحية، وقناة يوتيوب لبث ندواتنا، ومسابقات ثقافية تشجع على القراءة والإبداع».
ترميم للروح
من جانبها، ترى شيرين الزقزوقي إحدى عضوات النادي أن القراءة بالنسبة لها «شجرة تنمو في الروح» وتنقل القارئ إلى عوالم متعددة. وتوضح: «القراءة شغف يرافقنا في مختلف مراحل العمر، لكنها أيضاً نافذة لحوار متنوع يجمع بين خلفيات وتجارب وجنسيات متعددة. في نادي الراويات مثلاً، ما يجمعنا هو ترميم الروح في هذا العصر، وكأننا نرتدي طوق نجاة مزيناً بالزهور».
وتضيف إن الصداقة والود المتولد بين العضوات يخلق بيئة دافئة تشجع على الاستمرار، معتبرة أن النادي أصبح بالنسبة لها «وطناً سرياً للسرور والمعرفة»، إذ يفتح أمامها آفاقاً واسعة لقراءة كتب قيمة وأفكار ما كانت لتختارها بمفردها.
أما الدكتورة مايا أبو ظهر وهي أحد أعضاء نادي «ملتقى الراويات»، فترى أن العامل المشترك في أندية القراءة يبدأ من شغف المطالعة وحب الاستكشاف، لكنه سرعان ما يتطور إلى علاقات إنسانية وصداقة حقيقية بين الأعضاء. وتقول: «القراءة تفتح أبواباً نحو تجارب أخرى مثل السينما، المسرح، معارض الكتب وحتى السفر».
وتشير إلى أن التجربة انطلقت من «ملتقى الراويات»، حيث تقوم المجموعة بترشيح عناوين عدة، ويُختار الكتاب الأكثر تصويتاً ليُقرأ أمام الجميع. وتضيف: «نلتقي مرتين أسبوعياً، في الصباح بنادي دبي للسيدات أو مكتبة الصفا، وفي المساء عبر برنامج آخر مختلط بالتنسيق مع المكتبة نفسها ليتيح المجال للشباب والنساء العاملات».
ولفتت إلى مبادرات أخرى توسع التجربة، منها حضور عروض سينمائية ومسرحية لمناقشتها، وإقامة جلسات عبر «زووم»، إلى جانب رحلات داخلية لاكتشاف القلاع والمتاحف بالدولة، ورحلات خارجية مثل زيارة أوزبكستان الغنية بالتاريخ والثقافة.
صداقات حقيقية
وفي السياق نفسه، ترى شذى شلق العضوة في «ملتقى الراويات» أن الرابط بين أعضاء نوادي القراءة يتجاوز مجرد حب الكتب ليصبح حاجة إنسانية وفكرية في آن واحد. وتوضح: «قد يعتقد البعض أن الرابط الأساسي هو شغف القراءة، وهذا صحيح جزئياً، لكن القراءة فعل فردي، وحين تُشارك تتحول إلى تجربة جماعية ثرية».
وتعدد شلق أبرز الأسباب التي تدفع الأعضاء إلى الانتظام في لقاءات أندية القراءة، منها: الانتماء إلى فضاء فكري آمن: في عالم تكثر فيه التفاهات وضجيج التواصل الرقمي، يبحث الكثيرون عن مساحات هادئة للتفكير بصوت عالٍ، ونقاشات عميقة خالية من الأحكام المسبقة.
وحاجة اجتماعية وثقافية: هذه النوادي تشكل مجتمعاً صغيراً يمنح أفراده شعور الانتماء ويتيح لهم فرصة تكوين صداقات حقيقية، وممارسة فكرية تحررية:
فهي تفتح الأبواب أمام كتب وروايات مختلفة قد لا نقترب منها لولا النقاش الجماعي الذي يضيء زوايا جديدة. وتختتم حديثها: «أندية القراءة هي مجتمع صغير يجد أفراده أنفسهم بين السطور وفي بعضهم البعض. يجمعهم الشغف بالقراءة، والحنين إلى الحوار الهادئ.
والرغبة في الإنصات والحاجة إلى أن يُرى المرء ويُسمع». من خلال شهادات المشاركات، يتضح أن ما يجمع أندية القراءة والملتقيات الأدبية يتجاوز ثنائية «الشغف» أو «الحوار»، ليشكل نسيجاً من المعرفة، الإبداع، الصداقة، وبناء الوعي الجماعي. إنها بيئة ثقافية متكاملة تسهم في ترسيخ القراءة كقيمة مجتمعية راسخة، وتؤكد أن الكتاب لا يزال جسر تواصل حيّاً بين الناس والأفكار.