فتحتا الأنف، لا تنسَ، أغلق فمك، تنفس عبر فتحتي أنفك.
سحب ساري ببطء ملء بطنه من الهواء، عد إلى سبعة وزفر بتحكم وتركيز. أعاد الكَرة مرتين ثم ذاب في كرسي سيارته.
أحس بجسمه يسكن، كل حزمة من ألياف عضلاته ترتخي تباعاً وكأنها قالب ثلج يسيح تحت الشمس. تذكر ضحكة ابنته وهي تمسك فرِحة كوز آيسكريم الكاكاو السائل القشدي البني يسيل بين أصابعها الصغيرة وعلى ساعدها. شتان ما بين لذة الكاكاو والإفاقة من نوبة هلع.
تيقن ساري أنها أصبحت جزءاً منه، تآلف مع نوبات الفزع المتكررة، يتوخاها في عقله الباطن بقدر ما يتوقع مداهمتها في أي وقت، معادلة معقدة لن يفهمها إلا من عاشها.
رجعت ذاكرته إلى تسع سنين خلت حين حصلت له لأول مرة. كان مع أصدقائه في مجلس «شباب الفريج»، يلعبون الورق ويشاهدون مباراة كرة قدم.
مساء عادي، هادئ، هانئ، وسط طقس لطيف ابتدؤوه في فترة الجامعة، وذلك المساء لم يختلف عن غيره من أيام التجمعات المعتادة. ساري يجلس مستنداً إلى تكية، يراقب تحركات حمدان وراشد في لعبة «حكم».
في لحظة، أحس ساري بدوي خافت في صدره، راح صوته يعلو في رأسه، ازدادت ضربات قلبه وكأن الحجرات الأربع دمغت بعضها ببعض، جف حلقه وأحس بنفسه يضيق. ما الذي يحصل؟ حرك يده بثقل لم يألفه، يريد أن يوصلها إلى ثوبه ليفك الزر العلوي، دون جدوى. فقد الحس في أصابعه، يراها ولا يستطيع تحريكها.
عيناه مثبتتان على ورقة جوكر على السجادة، لا تميلان عن وجه المهرج الساخر. هرع إليه راشد بعد أن انتبه إلى أزيز تنفسه وصدره يرتفع ويهبط بقوة. ألقى حمدان بطاقاته وأمسك بكتفي ساري يهزهما،
- أنت بخير؟ ساري، تسمعني؟
جسم ساري لا يستجيب، أحس بشيء ما يخنقه، يجثم على صدره، إنه هو، الجاثوم، وحش خراريف الطفولة يزوره أخيراً، يريد روحه، يثأر لشيء لم يقترفه ساري.
- اطلبوا الإسعاف!
يسمع ما يدور حوله، لكنه ليس معهم. لم يشعر بالأرض تحته ولا بالتكية تسند ظهره، ولا بالأيادي التي امتدت إلى نجدته.
بدا له وكأن روحه انسلت منه، طفت إلى أعلى وتسربت عبر كل درزة في جمجمته، وصل إدراكه الواعي إلى الصفر، ولكنه يسمع ويرى كل شيء. ها هي روحه تطوف فوق رأسه، تراقب بعينيها من الأعلى إلا أنها منفصلة تماماً عن جسمه.
الجلبة حوله قائمة، الذعر في وجوه أصدقائه حقيقي، وهو عاجز كلياً عن الحركة أو النطق. رجفة عنيفة سرت في جسمه وأوصاله، شعر بخناق يشد قبضته على رقبته، يستل أنفاسه ويفرغ رئتيه من أوكسجين الحياة.
تحول إلى كائن سيريالي، فقد السيطرة التامة على إرادته. ما عاد يشعر بشيء ولا يعلم ما يفكر به غير أنه يتفرج من خارج المكان على صحبه يتخبطون لمساعدته، يسمعهم من خلال فقاعة ويراهم عبر ضباب خفيف.
- الحمد لله على السلامة، أوقعت قلوبنا!
صوت حمدان يتضح فيما بدأ الرنين في أذني ساري يخفت. يقترب حمدان منه ويناوله كأس ماء بارد. أحس براحة يد تمسح على جبهته ورأسه، سمع تمتمات تتبعها نفثات. بدأ الإدراك يرجع إليه شيئاً فشيئاً. استفاق من نوبة الهلع الأولى بعد دقائق بدت كأنها دهر، دخل فيها إلى عالم الموتى ورجع.
استجمع قواه بعد عدة أيام، زار طبيباً مختصاً وفضفض عنده. اعترف ساري بأنه جزع، مرتعب من أن تداهمه تلك الأعراض ثانية، ماذا لو حصلت له وهو يقود سيارته؟ أو وسط اجتماع في عمله، أو مع أسرته وهو يلاعب أطفاله؟ لا يريد أن يراه أحد متشنجاً، مخدراً...ميتاً.
صرح له الطبيب أن فرصة تكرار النوبات عالية، بل رجح ملازمتها له مدى الحياة وقد تطرأ في أي وقت وأي مكان.
- وما الذي سببها أول مرة؟
شرح الطبيب المحرضات، يمكن لأي شيء مهما كان بسيطاً أن يستدعيها: قلق دفين معشش في خبايا العقل، أو خوف سري يسكن الأعماق، أو ذكرى مؤلمة ترتفع إلى سطح الواقع - اللا وعي كائن قوي، كالوحش ينهض من سبات، يهجم وينهش، ثم يخبو وكأنه ما كان.
سأل ساري عن لحظة خروجه من دائرة الزمن والمكان، شعر أنه يراقب ما يحدث بلا مقدرة على نطق أو فعل.
- إنه «اضطراب الآنية»، تشعر أنك موجود ومنفصل في الآن ذاته.
أداتك الأولى نحو الاستشفاء هي المعرفة. ما دمت عشت الأعراض وعرفت أنها قد تباغتك في أي لحظة، تهيأ لها.
- كيف؟ حين أتت شلت كل ذرة في.
- اركب موجة الفزع وسر معها، لا تقاوم، دعها تمر عبرك مرور السراب.
مرت فترة من الزمن في سلام، ساري ممتن للهدوء والاستقرار لكن عقله في ترقب دائم. توجسه من شعور الهلع ذاته زاد من قلقه.
وفي ليلة عادية قرر الفزع زيارته مجدداً بلا استدعاء ولا مسبب واضح، وفي نومه هذه المرة. أيقظته ضربات قلبه، سمعها ترتد بين قفص صدره وجدران غرفة النوم، جفناه انفلقا على مصراعيهما، أحس بعينيه تجحظان نحو بياض السقف، ووخزات عميقة تضرب أسفل قلبه.
هذه المرة أيقن أنه الموت لا محالة.
أخذ جسمه يرتفع، كل ملليميتر منه ترك سطح الفراش، ابتعد، ارتقى.
توقف قلبه..
ثم عاد لينبض بوتيرة أسرع.
جاهد عقله ليتذكر نصائح الطبيب، في خضم ما يحدث له بدت كشعارات تافهة لا طائل منها؛ كيف يطبقها وهو في كربة الموت.
«أعمل عقلك الواعي وسيطر».
«قُد عقلك».
بجهد ذهني شديد جعل ساري وعيه المسبق بالحالة يمسك بزمام البلاء الذي حل به. طالت دقائق الغم. استجمع الإرادة وشتت الأفكار السوداء في لحظتها، إنه إنذار كاذب، تجلد يا رجل.
دع النوبة تمر.
لا تقاوم، استسلم.
التسليم مفتاحك للنجاة.
ستنتهي الأزمة في دقائق، وسترجع لحياتك.
تمتم عقله بتلك العبارات لنفسه وهو قابض على فكيه، عقله يغالب روحه، والنفْس تيأس، تقبل يا ساري وسلم. يرخي فكه ويتنفس من أنفه ببطء وعمق.
مضت النوبة وانتهت بهدوء نسبي، لم تشعر زوجته النائمة بجانبه بهول ما مر به. ذعر صامت سرى في ظهره كشحنة كهربية تركته جثة، عبرت من خلاله وتجاوزته. تمكن منها.
تسع سنوات مضت، ما عادت دوامة الخوف تشكل تهديداً لكيانه. ها هو يقود سيارته وحيداً على الطريق السريع، تداهمه نوبة، يخفق قلبه وتسري برودة في عموده الفقري.
يضبط إيقاع التنفس: عبر أنفك، ملء بطنك، واحد اثنان ثلاثة.... سبعة.
قدمه لا تبرح دواسة الوقود، يداه تقبضان المقود بتحكم تام، سرعة القيادة ثابتة، السيارة تسير في مسارها في خط مستقيم. ساري في سيطرة تامة.
