تدور حركة الأيام لتمر السنون، وما زال (سيف) عند شجرة السدر جالساً، ينتظر شبح إنسان لا يجيء! حالة رثّة يعيشها في فريجه، الذي هجره أغلب سُكّانه وأهله، وبدأت قوافل من المقيمين من المهن البسيطة تسكن الدُّور العربية القديمة.. ما زال أفرادها يتوافدون، وما زال (سيف) عند السِّدرة، التي صفعتها السنون بأوراقها الصفراء، تقاوم وحدَها تضاريس التعرية التي غزَت الفريج.. وأمام هذه المواقف، يأتي بعض أهل الفريج السابقون إلى نفس المكان، لجمع إيجارات البيوت القديمة من سُكّانها.. ومن هؤلاء (عيسى) وابنه (راشد)، ذو الأعوام العشرة، وصلا في أحد الأيام إلى بيتهما العربي القديم، حيث ذهب (عيسى) لأخذ الإيجار، بينما وقف ابنه (راشد) بالقرب من السدرة، كي يأكل منها بعضَ ثمار النبق.. وما هي إلا لحظات، حتى وقعت عيناه على رجل أربعيني، كثّ الشعر، رثّ الهيئة، يهذي بكلمات مبهمة، وعبارات متقطعة، مُلصقاً جسده بالسدرة، يشكو لها حاله... تعجّب، تراجع إلى الوراء، خاف، وعاد راكضاً إلى أبيه لاهثاً، وهو يتصبب عرقاً.
سأله أبوه: ما بكَ يا ر اشد؟
- لا شيء يا أبي!
- ولماذا تتصبب عرقاً بكثرة؟ قل!
رد راشد: رأيت رجلاً مجنوناً.. أمصرقع، يهذي ويتمتم بعبارات غامضة!
- ماذا؟! أين هو؟
- هناك تحت شجرة السدرة!
ذهبا معاً، حين اقترب منه (عيسى) بُهتَ!.. هذا (سيف)، يعرفه كل سُكان الفريج.. الله يا زمن! سأله ابنه راشد: أتعرفه يا أبي؟!
- نعم يا ولدي.
وخلال ومضة تاريخية، استرجعها (عيسى)، تذكر ذلك الشاب الوسيم (سيف)، الذي عُرف بوسامته وخُلُقه ومرحه، حيث يحترمه كل سُكّان الفريج، شيباً وشباناً.. كل أم تريد أن يكون زوجاً لابنتها.. ولكن الدنيا لا تبقى على حال واحدة.. جاءت (غبشة) العجوز، ذات العينين الزرقاوين، والبشرة الكالحة، والمِشية المتساقطة لحماً، وابنتها القبيحة (ظبية)، ذات القِصَر الشديد، إلى القرية في يوم خريفي موحش.. لا تُعرف لهما هوية أو معلومة تدل على أصلهما.. بدأتا بجرأة في زيارة البيوت وأهلها من النساء.. وبعد شهور مضت، أصبحتا حديث الفريج.. المرأة الغريبة وبنتها القصيرة!.. أخذتا تزوران أغلب البيوت، ومن ضمنها بيت (سيف) وأمه المشلولة.. وذات يوم، شاهدتا (سيف) وهو يدخل بيته، وهما جالستان عند أمه.. فوقعت عينا العجوز (غبشة) على (سيف)، وتمادت في النظر إليه، وهو ينظر بعيداً وخجلاً منها!.. لكنها بوجهها الصفيق تأكل التمر، وعيناها لا تكفان عن النظر إلى (سيف)! كأنها ترى فيه فريسة ثمينةً، لا يمكن تفويتها..
مرت سنة واحدة.. ليسمع أهل الفريج زغاريد في بيت (سيف)، استغربوا ما يجري.. ركض بعض الأطفال وهم يتناولون حلوى عُمانية، استوقفتهم إحدى النسوة: ما القصة؟.. رد أحدهم: زواج (سيف) من (ظبية) بنت (غبشة).. جثم الذهول على وجهها بعنفٍ، لينتقل الخبر الصاعق في خلايا الفريج، ليذهل الجميع تحت وقعِ الصدمة غير المتوقعة!.. وحسرة صفراء عَلت وجوه بنات وأُمهات الفريج.. مرّ شهران، ليجد أهل الفريج أن حال (سيف) لم تعد جيدة، بل صارت تنحدر من سيء إلى أسوأ.. وفي الشهر الثاني من زواجه، بدأ يهمل هندامه وثيابه.. ويتمتم بكلماتٍ تُشبه الطلاسم.. وتوفيت أمه بعدها بأيامٍ من زواجه.. جاء عمه (عليّ)، الذي يقطن إحدى المدن الساحلية، ليسأل عن حاله ومآله، ليأخذه إلى (المطَوَّع)، الذي قرأ عليه آيات من القرآن الكريم.. استقرت حالته قليلاً، ليفاجئ (المطَوَّع) عمَّه أن (سيف) مصاب بمس شيطاني، وتحت تأثير السحر الأسود!.. وقع الخبر على رأس عمه (عليّ) وقع السيف.. واستمرت هذه الحال لشهورٍ، حتى مات عمه (علي)، وبقي (سيف) وحيداً مع زوجته (ظبية) وأمها (غبشة)، وبعد سنة ماتت (غبشة)، وظل (سيف) بين هذيانه وتخرصاته، هائماً بين أزقة الفريج، لا يعي شيئاً إلا الذهاب يومياً إلى شجرة السدرة، ليجلس تحتها.. ويتمتم بكلمات متقطعة، لا يُفهم منها إلا أنه يخاطبُ أحداً.. ويبحث تحت الشجرة عن شيء مجهول وضعته (غبشة)!
