نشأ فن السخرية قبل الأدب، وولد ليحدد صورة الحياة والطبيعة البشرية في حالاتها المسيئة، ولعل الفلسفة والحكمة لدى القدماء وردت فيها السخرية المعالجة لطبيعة هذه السلوكيات الإنسانية، قبل أن تنتقل إلى الأدب والفن وإلى دروس البلاغة النقدية.
أما الرواية الساخرة والتي يهيمن عليها الهجاء، مع الشرط الرئيسي للأدب، وهو ألا يكون مباشراً، مثلها مثل الفنون الأخرى، لنرى كيف تجلى السرد في أسلوب السارد، ولونه، وطريقته الفنية والإبداعية، لتوجيه سهام السخرية إلى المشكلة وحتى إلى نفسه رغبة في التخلص كما فعل الروائي المغربي محمد شكري في روايته الخبز الحافي، فكان السرد نقداً فنياً قاسياً ومحرجاً، أشبه بمداواة من غير تورع.
إن القصائد الساخرة في تاريخنا العربي قد سبقت السرد الساخر، وفي مقدمة الشعراء كان الحطيئة الذي كان يرسم شعره نقداً ساخراً ولاذعاً، وغيره من الشعراء مثل طرفة بن العبد وهو يسخر في قصيدته عن الملك عمرو، حملت روح القصيدة فن الهجاء العميق لغة ونقداً، مروراً بالسرد القديم لمقامات الحريري، إلى الأساطير وفن الكاريكاتور في جميع أرجاء العالم، أمّا حين أطلقت الرواية سردها الساخر، أكملت بدورها هذا النوع من الفن بشكل مختلف، فخرجت النماذج الخالدة، ولعل رواية دون كيخوت هي من أكثر الأمثال عمقاً وتوظيفاً، لأشكال سردية وفنية مخترعة، للإسباني ميغيل ثربانتس، بأن يقُدم عملاً يغلب عليه الفكاهة والسخرية، منتقداً فيه جوانب الحياة والمجتمع التي نراها سطحية، ولكنها مؤلمة، لشخص يستسلم لوهمه، حتى لا يفرق القارئ بين جنونه الشخصي أو أن الجنون يكمن في الحياة نفسها، ليُعد كتابه هذا من أفضل الأمثلة على السخرية في تاريخ الأدب، خاصة أنه لم يخرج من التقاليد الشفاهية في التراث الإنساني، وهو يسرد القضايا الاجتماعية، ومع ذلك يشعر القارئ بأن علم الاجتماع حاضر في السرد، وكذلك الفلسفة.
ويهمني أن أشير أيضاً إلى نموذج عربي حديث للسرد الساخر، بعنوان (العصفورية) للأديب غازي القصيبي، وكيف أن الإنسان العربي في العصر الحالي يتأرجح في دوامته، ويشعر بالتشرد وهو يتعرض لتناقضات تدفعه إلى الجنون والحكمة في الوقت نفسه وبأسلوب هزلي مبتكر.
وأخيراً هو فن من أكثر الفنون صعوبة للمبدع السارد بتقديمه شخصية مبتدعة، وبنية حسنة يصرح فيها سرداً سخرية مرغوبة، والخط الفاصل رفيع جداً، فليس من السهل كتابة هذا النوع اللاذع، فهو بحاجة إلى ثقافة واسعة واطلاع على قراءات عديدة ومراقبة للمجتمع وسلوكه الاقتصادي والاجتماعي والعاطفي والسياسي، لنقل الفكاهة وإثارة القارئ، وإثبات المؤلف لهذا التواطؤ بينه وبين القارئ بحيث يخفي الرسالة فلا يؤكد ولا يعارض، بين المعنى الضمني والمعنى الصريح، للفكرة الساخرة.
