رنا يوسف
يمثل التطيب بالدخون والعود في الإمارات أكثر من مجرد عادة، فهو جزء أصيل من نسيج ثقافة المجتمع الإماراتي، ويعكس قيم الضيافة والكرم الأصيل. فبين أرجاء البيوت والمجالس، تتراقص سحابة من العطور الفواحة، شاهدة على أناقة أهل الإمارات وفخامتهم.
تلك العادة العريقة ليست وليدة اللحظة، بل هي إرثٌ حضاري توارثه أهل الإمارات عن الأجداد، فلطالما كانت الروائح الطيبة عنواناً للوجاهة وحسن الاستقبال. ولا يخلو عرس أو مناسبة اجتماعية من هذا التقليد العريق.
ولأن المرأة الإماراتية هي صانعة الأناقة، فقد برعت في صناعة الدخون، وتحولت هذه الحرفة إلى فن أصيل، حيث تختار أجود أنواع المكونات، وتبتكر مزائج عطرية فريدة، لتضفي على كل منزل لمسة من الرقي والفخامة.
صناعة تراثية
فيما يتعلق بالفرق بين صناعة الدخون في الماضي والحاضر، تقول شمة عيد الطاير، صانعة دخون: «اعتادت جداتنا على تحضير الدخون بما توفر لديهن من خامات بسيطة، حيث تبدأ الخطوة الأولى بطبخ الماء مع السكر حتى الوصول إلى قوام معين، والبعض كان يضيف ماء الورد، ثم يُخلط المزيج مع السحال، وهو العود المطحون، حيث كان يتم إحضار خشب العود من الهند ويُدق بطريقة يدوية باستخدام المنحاز والرشاد، ويُنخل للحصول على مسحوق العود».
وتتابع: «ثم يُضاف المسك والعنبر المذاب، ويُوضع الخليط في طبق مسطح بعد أن يُدهن قاعه بطبقة من المسك، وتُرش طبقة أخرى على الوجه»، مضيفة: «كانت العطور المتوافرة آنذاك تُضاف حسب الأذواق مثل دهن الورد، وعرق العنبر، وعرق الزعفران، وعرق الحناء أو الموتيا».
وتوضح شمة أنه «بعد ذلك، تأتي مرحلة التخمير وتكون مدتها ثلاثة أيام، حيث يُوضع الخليط في الظل، مع مراعاة تحديده بالسكين في مرحلة ما قبل الجفاف ليسهل تقطيعه لاحقاً، ثم تُحفظ قطع الدخون للاستخدامات المنزلية أو التجارة أو التهادي، بعد أن تُغلف بكيس ورقي وتُربط بقطعة قماش».
وبشأن الطريقة الحديثة لتصنيع الدخون، تقول الطاير: «توجد الآن آلات خاصة لطحن العود تسهل العمل على أصحاب المحال والورش، كما يتوفر في الأسواق العود المطحون الجاهز. يُضاف إليه المسك مع مقدار معين من السكر، وتُخلط المواد جيداً حتى يتغير لون العود، ثم تُضاف الروائح العربية أو الفرنسية حسب الرغبة».
وتضيف: «يتم تشكيل الدخون باستخدام قوالب معينة، ويمكن إضافة ماء الورد ليسهل تشكيله. وعلى الرغم من توفر مجموعة كبيرة من الروائح في وقتنا الحالي، ما زالت الكثير من البيوت الإماراتية تفضل خلطات الجدات».
وتستطرد شمة: «المسك الطيار بصيغته الصلبة هو نوع المسك المستخدم في تحضير الدخون، حيث يتم تكسيره قبل الاستخدام، وتكون رائحته أقوى من العادي.. وبالنسبة لإذابة العنبر، فتتم بطريقتين؛ إما بنقعه مسبقاً بدهن الورد وتحريكه من فترة لأخرى حتى وقت الاستخدام، أو بتعريضه لجمرة المدخن وإضافة كمية من دهن الورد إليه مع التحريك إلى حين الذوبان».
خيارات عطرية
ومن جهتها، تقول إيمان السويدي، صانعة دخون: «تعلمت من والدتي مهنة صناعة الدخون والعود، وبدورنا نقوم بتعليمها للفتيات حتى لا تندثر؛ فهي جزء من هويتنا وثقافتنا المحلية، وحياتنا اليومية».
وتضيف: «منذ أن وعينا على الدنيا نتبع ما يسير عليه أهلنا من عادات كتدخين البيوت والملابس والمفارش، فنحن لا نستغني عن تعطير ملابسنا وملابس أزواجنا، ولا يكاد بيت إماراتي يخلو من المدخنة، حيث يُوضع تحتها المبخر ليتسرب دخان الدخون وتفوح روائحه العبقة إلى الثياب أو أي قماش مراد تعطيره».
وتتابع: «هناك علاقة حب وثيقة تجمع بين الدخون والمرأة الإماراتية، وهنا لا بد أن نتكلم عن خلطات المخمرية والبضاعة التي لازمت العروس في الماضي وفاحت بروائحها المعتقة في المناسبات السعيدة، وكلتا الخلطتين تستخدمان لتعطير الشعر، ولكنهما تختلفان في المكونات ومدة التخمير».
وتضيف: «المخمرية خلطة قديمة مركزة تتكون من مواد أولية مثل دهن العود، والزعفران الخالص، وعرق الزعفران السائل، والمسك المطحون، مع الزيوت العطرية حسب ذوق كل سيدة، حيث تكون ذات قوام سميك، تُخمر في مكان مظلم لمدة أربعين يوماً، بعدها تنتج روائح جميلة متجانسة وقوية، وتدوم في الشعر لعدة أيام، بينما البضاعة ذات القوام الخفيف، فتكون التركيبة أبسط، وتتكون من مسحوق أوراق الياس المعجونة بماء الورد».
خلطات بعناية فائقة
تتميز فاطمة الظاهري بخبرة واسعة في عالم العود والدخون، حيث تقوم بتصميم خلطات فريدة تجمع بين الأصالة والابتكار. ولطالما كانت مشاركاتها في المعارض والمهرجانات شاهداً على إبداعاتها، وتقول فاطمة: «العالم العطري للعود عالم واسع ومتشعب، فنجد العود الخالص بنوعيه الهندي والكمبودي، والذي يتميز برائحة طبيعية عميقة.
أما العود المحسن فيتميز بلمسة فنية خاصة، حيث يتم تعتيقه بمهارة باستخدام مكونات طبيعية مثل المسك والزيوت العطرية. وتتطلب عملية تحسين العود خبرة واسعة في اختيار المكونات وتقنيات الخلط، خاصة عند استخدام الخلطات العربية التقليدية. ففي هذه الخلطات، يتم تحضير»اللدنة«بعناية فائقة باستخدام مزيج من العنبر المذاب بالورد الطائفي والفل والياسمين والحناء، لضمان تثبيت الرائحة وتجانس المكونات. وبعد ذلك، يتم إضافتها إلى العود مع ماء الورد والمسك، ثم يترك الخليط ليجف تماماً. وفي المرحلة النهائية، يضاف الزيت العطري ويترك العود ليتعتق مدة ثلاثة أشهر على الأقل».
