لطالما كان يقول لنفسه إن ما يُدعى عليه، لم يكن يؤثر فيه، أو هكذا ظن. ولكن، يومها، وعندما شاهد جثة والدته الهامدة، شيءٌ ما تصدع في داخله، وشعر بأنه أضعف من أن يرد ذلك السيل من الظلال الذي أتى ليلتهمه في سواد تلك الليلة المظلمة.
كان السيد راضي، رجلاً هادئاً جداً، أو كان كذلك في ظاهره، كان شاباً مهاباً رغم صغر سنه. ولكن، وبالرغم من ذلك لم تكن الشائعات لتتركه لشأنه مهما حاول، والشائعة التي كانت تحيط بالسيد راضي لم تكن عادية. في كل مساء، يجتمع أهالي الحي في المقاهي، أو المطاعم، أو في بيوتهم، وبين الجدران الأربعة في تلك الأماكن، كانوا يتهامسون، ثم يتحدثون، ثم يتهافتون بأن السيد راضي لم يكن رجلاً طبيعياً على الإطلاق.
كان راضي رجلاً وحيداً، رغم إحاطة الناس به، وتجمهرهم حوله كلما مر أو برز. في كل مرة، كانوا يأملون اكتشاف سر ذلك الطفل المشؤوم الذي مات والده في نفس ليلة ولادته. بعدها بعشر سنوات، وفي ذات اليوم، سيجتمعون مجدداً، ليتهامسوا بأن أخاه الأكبر قد توفي أيضاً دونما سبب واضح. ورغم النظرات الثاقبة والمتوجسة التي تلاحق السيد راضي، أينما ذهب، وترافقه كيفما حل، كان وبطريقة ما، إنساناً بمعنى الكلمة. كان لطيفاً مع الأطفال، حنوناً على أمه، وكانت صفات النبل تشع منه، وكان بطريقة ما، مبهراً وآسراً للجميع، رغم سوء السمعة الذي أحاطه.
السيد راضي راضٍ بكل شيء، لم يطلب في حياته أكثر مما يستحق، كان يعلم بأن الله إن كتب له رزقاً ما، فإنه وفي النهاية سيجده. الشيء الوحيد الذي لم يكن السيد راضي قانعاً به، هو نفسه ذاتها. كان يكن لنفسه كرهاً شديداً، بالرغم من كل محاسنه. حتى الألق الذي كان ظاهراً أمام الجميع، لم يكن يراه. كان يعلم بأنه لم يكن يحق له أن يدمر حياة من حوله، وعندما كان يمر يوم مولده في كل عام، كان يظن بأنه لربما لم يجب عليه أن يولد، لربما كان فعلاً شيئاً ملعوناً، ولذلك مات والده ليلتها، وأكد ذلك موت أخيه بعدها. وطوال حياته، وحتى تلك اللحظة، كانت حرب السيد راضي مع نفسه، مع الظلمة التي يراها في المرآة، مع شعور يراوده اسمه الذنب.
كانت فكرة الموت غير غريبة عنه، كان يعيش بها في مخيلته، وكان ثمة شيءٌ واحد يحميه منها كلما قصدته، وكانت درعه الواقية. كان يعلم بأنه جالب للموت، وهكذا كانت وجهة نظر الجميع فيه، وكانت والدته وحسب، هي الدليل الوحيد على أن علاقته مع عزرائيل كانت طبيعية، وأنه لم يكن من القتلة المتسلسلين، أو ممن كان لهم عهد مع الشياطين، أو من أرباب الجن، أو من المرضى النفسيين، ولكن هذا الدليل أيضاً اختفى الآن.
عندما كان يحل يوم مولده في كل عام، لم يكن يحتفل، كان يحضر باقة من الورد الأبيض الجنائزي، لكي ترافقه مع والدته في زيارة قبر زوجها وابنها. كانت هذه عادتهما الدائمة التي كان مواظباً عليها، رغم الحزن الذي كان يبرز في وجهه أكثر مع كل زيارة. «لا بد أن الله أحبني كثيراً، فأخذ مني شيئاً من الفضة، وأعطاني تاجاً من الذهب».
كانت دائماً تقول هذه الكلمات، ولكن في يوم مولده التالي، ماتت هي، واختفت تلك الكلمات من مخيلته.
قال الناس بعدها إنه قتلها، حتى أطفال الحي الذين كانوا يحبونه رموه بالحجارة، وأصبح الجميع يتهامس بأنه قاتل!
«إنه قاتل!»، «إنه شيطان!»، «خذوه إلى مصحة نفسية!». أصبحت الألقاب السيئة تكثر عنه، والتهمته الظلمة تماماً، فقط صوت واحد من بعيد، كان يقول شيئاً مغايراً، كانت فاطمة، أجمل وأرق فتاة في ذلك الحي، قالت: «ليس شيطاناً أو وحشاً، وليس مسكيناً أيضاً، إنما هو بشر عاديٌ وحسب».
كان معجباً بفاطمة منذ فترة طويلة، لم يبعده عنها حتى ذلك اليوم، سوى ما قيل عنه، وما كان يقوله هو في سريرته عن نفسه. ولكن، وفي ذلك اليوم، شعر بأن ما كان يُقال، كان كله صحيحاً حتى النخاع... لم يكن يقوى على رده أكثر، قد سقطت كل دفاعاته.
بعدها بعام، كان قد جهز كل شيء، وقرر في عشية يوم مولده بأنه سيموت غداً!
وعندما حل الصباح، انطلق في النور ثانية مرتدياً نظارة شمسية، وأصبح الناس يتهامسون مجدداً. زار قبور عائلته، وصمت صمتاً طويلاً أمام كل قبر، ثم وفي طريق عودته، صادف فاطمة، فاستوقفته رغم العيون المحيطة!
أشارت له على استحياء بأنها انتظرت طويلاً لتقول ذلك الكلام، وأنها تدرك إعجابه بها، وأنها تبادله ذات الشعور، ثم قالت: «أنا أعلم ما تخطط له، انسه تماماً».
ليلتها، تغير شيءٌ ما من الأعماق في السيد راضي، تذكر كلمات والدته، ثم، ولأول مرة، أدرك أنه لم يبك كفايته قط، فبكى، ثم أحضر لنفسه بدلة جديدة، وتناول كعكة صغيرة، وذهب لخطبة فاطمة.
