في عالم الفن، لا تُقاس القيمة بالجمال وحده، بل بالقصص الخفية والأسرار المدفونة التي تحملها اللوحة، والسؤال الآن.. كيف قفزت لوحة غامضة، كانت مخبأة لعقود، لتصبح أغلى عمل فني حديث يُباع في مزاد؟ لقد تحولت صورة إليزابيث ليدرير، بريشة الفنان النمساوي غوستاف كليمت، إلى أغلى عمل فني تبيعه دار سوذبيز على الإطلاق بعد أن بيعت في نيويورك يوم 18 نوفمبر مقابل 236.4 مليون دولار.

هذا الرقم الصادم لم يتجاوز لوحة كليمت السابقة "سيدة مع مروحة" فحسب، بل أطاح بصورة "مارلين مونرو" لأندي وارهول، ليضع اللوحة في المركز الثاني لأغلى الأعمال الفنية المباعة بالمزاد، خلف "سالفاتور موندي" لدافنشي فقط، مؤكداً أن تاريخ اللوحة المليء بالدراما والمصادرة يوازي قيمتها الفنية.

لقد شهدت قاعة مزاد سوذبيز معركة عطاءات شرسة استمرت قرابة الـ 20 دقيقة، وهو وقت استثنائي لبيع عمل فني واحد، مما أشار إلى أن جامعي التحف يعتبرون اللوحة فرصة لا تتكرر.

هذه المعركة التي انطلقت بسعر 130 مليون دولار، تؤكد أن المشترين لم يكونوا يتنافسون على عمل فني بصري فقط، بل على رمز ثقافي يحمل إرثاً نادراً ومرئياً لأحد أكثر الفترات اضطراباً في التاريخ الأوروبي.

إن هذه المنافسة المحمومة تعكس التركيز المتزايد لسوق الفن العالمي على الأعمال التي تجمع بين العبقرية الفنية والذاكرة التاريخية.

اللوحة، وهي بورتريه كامل لـ إليزابيث ليدرير، ابنة أبرز رعاة كليمت من عائلة يهودية ثرية، قد تبدو للوهلة الأولى تفتقر إلى البذخ المعتاد في أعمال "الفترة الذهبية" لكليمت.

لكن هذه التحفة التي رُسمت بين عامي 1914 و 1916 في السنوات الأخيرة من حياة الفنان، تنبض بكثافة نفسية مثيرة للاهتمام.

لقد تبدل استخدام كليمت الجريء للذهب إلى جرأة في استخدام الألوان النابضة التي تقترب من أسلوب التعبيرية، وهو ما يكشف عن ثراء جمالي أكثر عمقاً.

كما أن اللوحة ليست مجرد بورتريه؛ إذ نسج كليمت في تصميم رداء إليزابيث رموزاً مأخوذة بشكل انتقائي من الفن الآسيوي الشرقي، ومن عالم التصوير الطبي المجهري، لتمنح الشابة حضوراً شبه أسطوري، محولاً البورتريه إلى إعادة اختراع لـ "ولادة فينوس" لعصر جديد.

وتعود القيمة التاريخية الهائلة للوحة إلى قصتها المأساوية تحت الحكم النازي؛ فبعد ضم النمسا عام 1938، استولى المسؤولون النازيون على المجموعة الفنية الهائلة لعائلة" ليدرير".

والمفارقة التاريخية هي أن هذه اللوحة بالذات نجت من الحرق الذي أتى على عشرات الأعمال الأخرى لكليمت في قلعة إيمنندورف عام 1945.

فد ترك النازيون هذا البورتريه تحديداً ضمن مجموعة العائلة، إذ اعتبروها "يهودية جداً" بحيث لا تستحق السرقة أو العرض.

ليس هذا فحسب، بل إن هذا البورتريه كان عنصراً رئيسياً في قصة كفاح إليزابيث لإنقاذ حياتها أثناء الهولوكوست، حيث استخدمت مزاعم كاذبة عن علاقة قرابة بكليمت لتجنب الترحيل.

لقد كانت اللوحة، بعد مصادرتها وإعادتها لاحقاً إلى شقيق إليزابيث عام 1948، تنتظر اللحظة المناسبة للعودة إلى دائرة الضوء بعدما اشتراها الملياردير ليونارد أ. لودر. هذا العمل الفني لا يمثل فناً عظيماً فحسب، بل هو شهادة ملموسة على البقاء، ورمز للثبات في وجه الظلم.

والجدير بالذكر ان  العلاقة بين الفنان غوستاف كليمت وعائلة ليدرير، وتحديداً الزوجين أوغست وسيرينا ليدرير، تمثل واحدة من أعمق وأهم شراكات الرعاية الفنية في عصر الانفصال الفيني (Vienna Secession).

لم يكونوا مجرد مشترين لأعمال كليمت؛ بل كانوا يُعتبرون "أبرز رعاته الرئيسيين" والأكثر التزاماً بدعمه، حيث قاموا بتكليف العديد من لوحاته وجمعوا مجموعة ضخمة من أعماله التي كانت تُعد من كنوز الفن الحديث في فيينا.

هذا الدعم لم يكن مادياً فحسب، بل كان احتضاناً لأسلوبه الفني الجدلي والمثير، مما منح كليمت الحرية الكاملة للإبداع.

وتُعد لوحة إليزابيث ليدرير تجسيداً فنياً لعمق هذا الولاء، إذ جاء تكليف البورتريه في السنوات الأخيرة من حياة كليمت، ليمثل إهداءً فنياً يربط مصير الأسرة بتاريخ الفنان حتى بعد رحيله.