السرد النفسي واحد من أكثر أشكال الحكي تعقيداً وثراءً، لأنه لا يكتفي بملاحقة الأحداث الخارجية، بل يتوغل في العالم الداخلي للشخصيات، بدءاً من المشاعر والهواجس، انتهاءً بالصراع على الأحلام.. سرد يضع القارئ وجهاً لوجه أمام الذات العارية، ويكشف تفاعلاتها الخفية التي قد تكون أهم من أفعالها الظاهرة، فينشأ الاهتمام بالسرد النفسي، ليتطور علم النفس الروائي ليس من القرن التاسع عشر، كما هو شائع، فهو ظاهر منذ رواية حي بن يقظان لابن طفيل في القرن الثاني عشر الميلادي في الأندلس الإسلامية، مروراً بتيار الأدب الروسي الواسع والمؤسس بشكل أوسع للسرد النفسي كما روايات ديستويفكي، وغوغول، وتشيخوف.. إلى الحداثة في الأدب الأوروبي، المبني على السرد العربي والشرقي القديم بعد ترجمته، ليسعى الكتّاب في العالم إلى تجاوز الحكاية التقليدية، ويجعلوا النص فضاء للتأمل في اللاوعي والذاكرة والأحلام.

أما بعد ظهور التقنيات الجديدة في الأدب، مثل تيار الوعي والمونولوج الداخلي، أصبح النص شبيهاً بتدفق الأفكار كما تجري في عقل الشخصية، بلا ترتيب منطقي صارم، بل بانسياب يعبر عن طبيعة الذهن البشري.

ولعل النموذج الأهم في دولة الإمارات والخليج العربي، هو الروائي علي أبو الريش، خريج علم النفس من سبعينيات القاهرة، والذي يعد من أبرز الروائيين الذين انشغلوا بالبعد النفسي في نصوصهم، ففي رواية الاعتراف على سبيل المثال، لا تروى الحكاية من الخارج بقدر ما تبنى من الداخل، من خلال صوت الشخصية الممزقة بين التقاليد ورغبتها في الحرية، فالسرد هنا يتخذ شكل اعترافات داخلية تكشف صراع الذات مع ذاتها، أكثر مما تكشف أحداثاً خارجية، وكذلك معظم رواياته إن لم تكن مجملها، يسرد البناء الداخلي ويوظفها كما يجب.

كذلك برز السرد النفسي في روايات ليلى العثمان، حيث تجلت العوالم الداخلية للمرأة في مواجهة أسئلة الحرية والهوية.. لم يعد السرد رفاهية أسلوبية، بل ضرورة للكشف عن الإنسان في أعمق حالاته، وهو يثري المشهد الأدبي الإماراتي والخليجي بإضافة بعد جديد للحكاية، يجعلها أكثر التصاقاً بالوجود الإنساني، وأقرب إلى القارئ الذي يجد في هذه الصفحات مرآة لذاته وهواجسه.

وما يجب أن نذكره بعد تجارب الرواة في العالم، أن السرد النفسي حرر الأدب من سطوة الخارج، ليجعل الإنسان موضوعه الأصيل، فبدلاً من التركيز على الأحداث الكبرى أو التحولات الاجتماعية، يصبح النص رحلة في دهاليز الذات، حيث لا وجود لحقيقة واحدة بل شبكة معقدة من الانفعالات والأفكار المتضاربة، أي أنه أدب يقترب من علم النفس والفلسفة، ويمنح القارئ فرصة للتأمل في ذاته عبر مرآة الشخصيات، بالإضافة إلى أن هذا السرد يفتح باب الشك أمام القارئ ويدعوه إلى إعادة بناء الحقيقة بنفسه، فالسرد النفسي لا يقدم الحكاية جاهزة، بل يزرع في النص مسافة للتأويل والمشاركة.

في النهاية يبقى السرد النفسي فناً للغوص في الأعماق، وسرداً لا يدور في الشوارع والساحات، بل في غرف العقل والقلب، حيث يكمن الصراع الحقيقي للإنسان.. إنه الأدب الذي يثبت أن المعارك الكبرى قد تجري في صمت داخل النفس، قبل أن تظهر في العالم الخارجي.