في عالم يموج بثورة رقمية غير مسبوقة، تطل ظواهر متسارعة تحمل في طياتها رؤى مبتكرة، محاولة تغيير القواعد والآليات في دنيا الثقافة، وتمتد رياح التغيير العاتية ساعية إلى زلزلة كيان صناعة النشر، حيث اعتادت الكلمة أن تمر عبر بوابات الدور العريقة التي يراها البعض أوصياء يحتكرون منصات التعبير.

وخلال هذا المشهد، يواجه الكاتب الناشئ تحديات الارتحال بكلماته الأدبية إلى الجماهير القابعة داخل الحدود الجغرافية، فيصطدم بتلك الحواجز التي تبدو أمامه منتصبة كحراس يقفون في طريق حلمه بامتلاك مصيره الإبداعي، واستثمار مواهبه بواسطة قلمه البديع، هنا يقرر أن يتجاوز كل ذلك عبر مفهوم جديد: «النشر الذاتي».

«البيان» أفسحت هذه المساحة لمناقشة الجدل المحتدم حول تلك القضية، ورصدت ملامح من نبض الوسط الثقافي العربي، طارحة أسئلة جوهرية عن مدى قدرة هذا المفهوم على إعادة تشكيل خريطة الكلمة المكتوبة، وحقيقة ما يرتسم في الأذهان من جرائه عن نهاية حقبة دور النشر العريقة.

وأوضح راشد الكوس، المدير التنفيذي لجمعية الناشرين الإماراتيين، أن صناعة النشر تشتمل على تخصصات مختلفة: الكاتب والرسام والناشر والموزع، وأنه لكي ينال كل شخص حقه في هذا المجال لا بد أن يبقى كل في اختصاصه، مؤكداً أن تداخل الأدوار بحيث يصبح الكاتب ناشراً مثلاً أو العكس يؤدي إلى عدم التركيز.

ورأى البروفيسور ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، أن للنشر الذاتي، الذي انتشر في الكتابات الإنجليزية على وجه الخصوص، فوائد كثيرة، وأن أبرز محاسنه اختصار المسافة بين الانتهاء من العمل وإخراجه، موضحاً أن انتهاج هذا السبيل أمر طبيعي، ولا يمكن فرض تصور ما على الجميع وضبط الأمور كلها بمعيار واحد.

ولفت إلى أن من ينشرون ذاتياً قد يعرّضون أعمالهم لبعض القصور إن لم يتبعوا الخطوات المتعارف عليها في النشر التقليدي.

وأكد الكاتب الروائي المصري محمد سمير ندا، الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2025 عن روايته «صلاة القلق»، أن النشر حق مشروع للجميع، وأن ثمة أسباباً قد تدعو فئة من الكتَّاب إلى نشر أعمالهم ذاتياً، منها عدم العثور على الناشر المناسب، موضحاً أن مشكلة العدد المتكاثر من الكتب المنشورة ذاتياً هي غياب الثقة بحقيقة كاتب النص.

وقال: «لا تعترف لجان الجوائز الأدبية بالنص المنشور ذاتياً؛ لعدم تبنّيه من جهة ناشر معيَّن، وربما أعارض هذا التوجه بدرجة ما؛ لأنه يؤدي إلى إقصاء بعض الموهوبين الذين لم يُوفَّقوا إلى إيجاد ناشر»، مشيراً إلى أنه شخصياً واجه هذا التحدي فترة طويلة حتى وجد الناشر الملائم لكتاباته. واستبعد أن يكون النشر الذاتي حلاً عملياً يعوّل عليه في ضوء الحديث عن استمرارية الأدب الإنساني كما عرفه الناس وقرأوه منذ مئات السنين.

ووصفت الدكتورة فاطمة البودي، المؤسِّسة والمالكة لدار «العين» للنشر، فكرة النشر الذاتي وما يتعلّق بها من طموحات إلى تحقيق أرباح من استثمار الأدب بأنها «محض أوهام»، متسائلة: «من سيحكم على المحتوى المنشور ذاتياً بالجودة أو الرداءة ويضبطه لغوياً ويحرره ويحقق له الدعاية المطلوبة؟!». وأكدت ضرورة وجود الناشر بوصفه عنصراً أساسياً في حركة التأليف.

وأوضحت رنا حايك، ﻣﺪﻳﺮة تحرير دار «نوفل - ﻫﺎﺷﻴﺖ أﻧﻄﻮان» للنشر، أن النشر الذاتي مغامرة صعبة وغير مأمونة العواقب، وإن كانت تمنح الكاتب فرصة التحرر من قيود دور النشر، كما أنها لا تتيح له إمكانات التسويق والتوزيع والحضور المرغوب فيه، مؤكدةً أن الكتاب المطبوع لا يزال ذا حظ أوفر في الظهور والانتشار.

وقالت: «ما زلنا نؤمن بالكتاب المطبوع ونعجب بكتابة أسمائنا على غلافه، ونحب أن نراه موضوعاً على رفوف مكتباتنا، ومعدلات من يلجؤون إلى النشر الذاتي في العالم العربي تبدو حتى الآن قليلة».

من جهتها، توقعت مروى ملحم، كاتبة ومحررة ضمن فريق البرامج لدى مؤسسة الإمارات للآداب، وضمن اللجنة العلمية في قمة دبي الدولية للمكتبات والنشر 2025، أن يكون للنشر الذاتي تأثير في دور النشر التقليدية مستقبلاً، وكذلك في الجوائز الأدبية، لافتة إلى أن الجوائز تعتمد في ترشيحاتها على الناشرين وانتقاءاتهم للكتب الصادرة سنوياً.

وقالت مروى: «لا يمكن القول إن النشر الذاتي مساهم فعلي في استثمار الكاتب أعماله الأدبية، حتى توجد قوانين واضحة تضبط مساره».