التغيير المناخي، ضمنياً هو الصورة التي ترتبط بالأذهان بالانبعاثات، البصمة الكربونية، والتغييرات البيئية التي تعصف بالكوكب منذ أعوام، تلك الأعوام التي تجمدت في ستينيات القرن الماضي، حين قررت الدول الكبرى -والتي تسمّى المتطورة المتقدمة النمو- أن تتوقف فجأة وتعير التغيير المناخي اهتمامها، بعد أن انتهت من بناء بنية تحتية قوية، وقوى اقتصادية كبرى، واستقرار مادي، اجتماعي، ثقافي وحضاري لمجتمعاتها وشعوبها. نحن مدركون بحقائق علمية أن ما قامت به من سرعة في التطوّر، واستنزاف الموارد الطبيعية، وتحويل مجرى الاقتصاد لها، هو ما تسبب بالخلل الأول، وبالتفاقم المستمر الذي نراه قد امتد من قارة لأخرى حتى غطى الكوكب؛ وصار الاختلال البيولوجي، المناخي والحياتي في كل مكان دونما استثناء؛ الجزر غيرمستقرة بكم الفيضانات، الدول الصحراوية بموجات العصف الغباري الذي يقتلها مرضاً ويخنق سكانها، ارتفعت درجات الحرارة صيفاً في كل مكان، الحرائق تزداد والمسببات في غياب، الهجرة ازدادت وتضاعفت، والمجاعات تجردت من المحدودية، الأمية لا تزال تهاجم الكثير من الأطفال، شح الماء مستمر في العالم، تزعزع الاستقرار الذي يسعى له الإنسان؛ فالكل له حق متساوٍ في الحياة وما يجب أن يتوفر له، لا أن يكون مرتبطاً بما تقره الأجندات السياسية، ومحركات الاقتصاد الكبرى وتطلعات بعض الدول!
دولة الإمارات في قلب الحدث، مدركة لمجريات ما حولها، وأن ملف التغيير المناخي هو ملف اقتصادي يسيّس من قِبَل مفاوضين، محللين وسياسيين، وجوهر الأمر كيف تتحرك الأموال والسيولة المادية من مكان إلى آخر، وكيف تنطق القرارات في مصير البشر الذين يتحلقون حول الطاولات المستديرة أوالمربعة ليأخذوا قراراً مصيرياً لحكوماتهم. عرفت منذ زمن أن الوقوف في زاوية المشاهد لا يخدم القضية، فبدأت في صنع التغيير من باب مهم، باب الوعي والفهم وصناعة الإنسان المدرك الواعي لتفاصيل الأحداث وكيف تجري، لقد كانت دائماً قضية التغيير المناخي هي قضية الأجيال، والأجيال التي مرت عليها القضية هي أجيال متغيّرة، وعقول بعضها ثابت وبعضها متذبذب متلوّن بما يقال له ويرى حوله في فهم منقوص عن التاريخ وكيف بدأ كل شيء! فبعد أكثر من سبعة وعشرين عاماً من توقيع اتفاقية كيوتو (اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي) تغير الجيل الأول الذي تكلم عن القضية والذي لربما كان مدركاً تماماً للحقائق والمسببات، وأصبح الجيل الجديد اليوم، البعض وليس الكل متعصباً بشكل مستفز، ملقياً اللوم على الشعوب التي لا تزال في طور النمو، أو وصلت مرحلة أولى من التقدم العمراني والصناعي، أو حتى في الاستقرار والأمن الغذائي، وتوفير الطاقة والحياة الكريمة، ليس القصد أن نجمّل الموقف ونعطي الأعذار لكن يجب أن ندرك تماماً كيف أنه مع مرور كل تلك الأعوام، فإن الخلفية البيئية، المجتمعية وحتى ما يروّجه الإعلام هي عوامل مؤثرة في تغيير نظرة جيل كامل لدولة ما، أو منطقة، أو قارة، ولربما تسبب تغييب الكثير من التاريخ والحقائق العلمية أحياناً في مغالطات هي في الأصل موجهة لمنطقة جغرافية بعينها.
وتأتي اليوم، دولة الإمارات العربية المتحدة متمثلة في حكومتها، مؤثريها من قادة ووزراء، أصحاب قرار، أهل الخط الأول ليغيّروا الكثير في أعوام قليلة، لا نتحدث عن السنوات الأخيرة، بل قبلها بزمن منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، كنا في قلب الحدث، متوازنين ومدركين لما يحتاجه المستقبل في التغيير الواعي الحكيم، لتلعب الدبلوماسية الإماراتية دورها في تعزيز وجود الحراك الإماراتي، بدأت الدولة بسياسات قوية وحكيمة، رسّخت السياسات والقوانين التي تلعب دوراً مهماً في تغيير مجرى الأحداث، وأعلنت التزاماتها مثلها مثل الدول الكبرى الأخرى، لتكون قدوة في المنطقة؛ أعلنت السياسات البيئية، وسياسة الحياد المناخي، وتشريعات مختلفة لحماية الموارد الطبيعية. وجاء الإدراك الأول محفزاً لأهمية التحول للاستدامة وهو إدراك بدأ منذ تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بدأه الوالد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيّب الله ثراه-، حين وضع اللبنة الأولى واستثمر فيها، الاستثمار في الإنسان، كان المواطن محور اهتمامه لإدراكه أنه يؤسس لدولة، والدول لا تقوم إلا على من يبنيها متسلحاً بالعلم وإرثه وقيمه، واليوم استثمرت الدولة في المفاوضين ليحدثوا الفرق في قاعات المفاوضات.
نحن نفخر بالبنية التحتية التي قامت على الإنسان، أصبح الفكر الإنساني محركاً ومؤثراً في كل الملفات السياسية الاقتصادية والتغيير المناخي، فقبل أكثر من عقد ونصف، توجهت حكومة الإمارات للطاقة النظيفة، وأدركت أنها لا تستثمر فقط للوطن بل العالم فامتدت استثماراتنا لكبرى الدول، غيرت مفهوم الطاقة وتوليدها، فأصبحنا ولله الحمد نمتلك أفضل المصافي المتطورة تكنولوجياً، وانتقلنا لمصادر جديدة كالطاقة النووية، جعلت من وصولنا للحياد المناخي أسرع ممن خطط قبلنا، وضعت رؤية وسياسة أن ننتقل في كل المجالات من صفوف المراقبين إلى صفوف المؤثرين، ومن مجرد الحضور إلى قيادة الملفات، فاستضفنا إكسبو 2020 الذي ارتكز على الاستدامة وبناء مستقبل الأجيال، استضفنا قمماً ومؤتمرات كان لها الأثر التاريخي، كمؤتمر الوقود البديل في قطاع الطيران والذي انتهى على أرض دبي بقرار «إطار دبي العالمي للوقود في قطاع الطيران» وتقليل الانبعاثات الدولية بنسبة 5% بحلول 2023، استضفنا مؤتمر «كوب 28» لنقود بذلك تحولاً كبيراً في طريقة الطرح والمفاوضات، وننتهي بـ «اتفاق الإمارات» العالمي، والذي يرسخ خارطة طريق مهمة للعالم لتنفيذ «اتفاقية باريس المناخية».
لم تكن هذه الإنجازات وليدة اللحظة، ومن فراغ، بل جاءت بجهدٍ وتخطيط ونهج، ومتغيرات عاصرت أهمية الانتقال، فنحن في عشرة أعوام، تغيرت أجندة حكومتنا ليصبح التغيير المناخي على قائمة أولوياتها، وأصبحت أهداف التنمية المستدامة جزءاً من منظومة حكومة الإمارات، وضعت الاستراتيجيات والسياسات، من خلال فهم عميق أن الاقتصاد المستدام على أسسه الصحيحة هو النهج المستقبلي الذي سنكمل به مشوارنا وطريقنا كمؤثرين عالمياً، لقد حركنا الملفات الراكدة وأثبتنا للعالم أن في هذه المنطقة إنساناً واعياً، مثقفاً، مدركاً ومتعلماً. بعد خمسين عاماً من قيام الدولة، نحن اليوم رقم صعب، واقتصاد عالمي، لنا شراكات في كل العالم، نقطة وصل للعالم من خلال مطاراتنا، التي أصبحت الأولى، وشركات طيراننا الأكبر عالمياً، أصبحت الطاقة النظيفة متوفرة لدينا، لتخدم التوجه الاقتصادي العالمي، تغيرت البوصلة وتحركت من مكان يعرفه العالم في الماضي، إلى قارة جديدة انتعشت وأصبحت فيها الإمارات مركزاً حضارياً وتجارياً وسياسياً واقتصادياً.
وتناغمت السياسات والقرارات لتجعل أمام عينها ابن الوطن، أصبح اليوم بمقوماته ودعم حكومته، في الصفوف الأمامية، يقود ملفات حساسة ويمثل وطنه ومنطقته، نحن لا نتحدث فقط عن الوزراء، بل إن سياسة الإمارات قامت ولا تزال على تمكين كل إماراتي له من الممكنات ما يجعله في المناصب المؤثرة في المنظمات الدولية، ومنظمات الأمم المتحدة والباحث عن الأسماء سيجد الكثيرين اليوم ممن تركزت فيهم الثقة الدولية، هنا تبدأ فصول أخرى في التغيير، لأننا اليوم ننقل فكراً وثقافة مغايرة، تغير مجريات الأحداث، نحن في قلب المفاوضات الكبرى، نعرف ما تحتاجه الشعوب، برؤية متوازنة فأصبحنا صوتاً مهماً لشعوب كثيرة كانت مغيبة ومنسية، وتحركت دفة المناقشات وتحديداً في الكثير من البرامج والقضايا المتعلقة بالتغيير المناخي والاستدامة لتسلط الضوء عليهم، وتُعنى بمستقبلهم الاقتصادي والسياسي، انتقلت الكثير من الشعوب من الكواليس للخط الأمامي، وهذه رؤية وسياسة قادة دولة الإمارات، أن تمضي وتدفع غيرك معك لأن يكون في صفك وينعم بالحياة، ويؤخذ برأيه ومتطلباته.
التغيير المناخي، بكل أبعاده ليس ملفاً سهلاً، أو ذو اتجاه واحد ومجال معين، بل هو الإطار الأكبر لكل ما يجري في العالم، في البنوك، في البورصة، في التمويل، في الالتزام، وفي توفير الاستثمارات، إن اتفاق الإمارات التاريخي في كوب 28، لم يكتف فقط بذلك بل أسست حكومة الإمارات من خلال كفاءاتها وإعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة «حفظه الله»، صندوق «ألتيرا» للعمل المناخي، بمبلغ 30 مليار دولار لتسريع الحلول المناخية على مستوى العالم، لم يكن ذلك إلزاماً بل طوعاً؛ لإدراك حكومتنا أن الدعم المادي هو ركيزة أساسية في إحداث الفرق، وتغيير المجتمعات، ودفع الحكومات للالتزام، وهنا تتغير الأحداث فبعد أن كنا نسمع عن عجز كبير أصبحنا نرى ونسمع عن تحركات اقتصادية من شأنها أن تعزز العمل المناخي، الذي سيستمر وسيكبر.
ندرك في دولة الإمارات أن السياسات العالمية تؤثر فينا، تغير من توجهاتنا، فحين يتغير رئيس دولة، أو تنسحب دولة كبرى من «اتفاقية باريس للمناخ» وتتأثر سياسات الطاقة و تتغير أولويات التمويل لديها والتزامها؛ فإن الجدية في الأمور تتأثر ولربما تأخر من التقدم، لكن حكومتنا تدرك وتعي أن كل تغيير هو فرصة وأن التراجع ليس من شيمنا، التحليل الدقيق لكل موقف هو ثقافتنا، فنحن نتجه بميزان التوازن والمساواة، ونوحد اختلاف وجهات النظر، ندرك أن المرحلة القادمة ستؤثر بطريقة يراها البعض سلباً، لكننا سنعمل مع المتغيرات بما يخدم البشرية والدولة، نقيس كل المتغيرات وتأثيراتها الاقتصادية: الحروب، تغير الرؤساء، تغير التوجهات، ندرس وندرك الصلة بين المتغيرات وتوجهاتنا الاقتصادية.
إن من أهم أهداف التنمية المستدامة في ملف التغيير المناخي هي الحياة الكريمة للإنسان، توفير متطلباته في كل مكان وزمان، تعمل الإمارات من خلال الشراكات والاتفاقيات الاقتصادية الشاملة على رفع مستوى التصدير، لتصبح اليوم المركز الأول في تصدير الكثير من البضائع من خلال موانئها ومطاراتها، لتلتزم بذلك على أن تصبح ذراعاً اقتصادية محورية لتوفير الاحتياجات ما بين الشرق والغرب، الدول الغنية والفقيرة. لقد أثبت التخطيط الأول للمؤسسين الحكمة الاقتصادية الكبيرة، حين فكروا وقرروا أن تكون الإمارات جسراً يربط العالم فاكتسحت المؤشرات في توصيل الخدمات الطبية في الأزمات، وتسهيل حركة الإنسان ووصوله لوجهاته، إن البنية التحتية التي نمتلكها اليوم لم تسهل فقط على الدولة تحقيق أهدافها وسياساتها، بل سهلت على الكثير من دول الجوار الوصول للعالم، وتحقيق رؤيتهم. كما وتدرك حكومة الدولة أهمية الإعلام كذراع مؤثرة في نهج الدول وسياساتها فأعلنت حكومة الدولة متمثلة في المجلس الوطني للاعلام «قمة بريدج»، في نهاية عام 2025 في أبوظبي، بريدج هي منصة لتبادل الأفكار وإحداث الفرق وتسريع الحلول لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة.
ونختم بحق الإنسان في التعلم، ومبادرة تحدي القراءة العربي الذي غير حياة ملايين الأطفال وصورة المنطقة، فأصبح التعليم والقراءة حقاً مشروعاً أكثر من ذي قبل، وسياسة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، راسخة بأن الأمم لن تقوم إلا على أبنائها، وأن القراءة والتعليم جوهر الحياة وتقدمنا، وقلبُ كل مفاهيم الاستدامة وأهدافها، فاستمر، طور وكرم، وعزز وجود الفكر العربي الواعي. ونحن نمضي إلى حقبة جديدة، إلى الخمسين القادمة نركز على كلمة سموه في رسم سياساتنا وخططنا المستقبلية، قال سموه: «خمسون عامرة بالخير.. عميقة في التأثير.. نموذجية في بناء أمل للمنطقة والعالم»، سنكون بإذن الله مركزاً اقتصادياً مهماً، فنحن أمل جديد في هذه الحياة، اقتصادياً، ثقافياً، فكرياً اجتماعياً وسياسياً.
