في سن الرابعة عشرة، كان دانيال جاكسون يستمتع بعطلة صيفية عادية مع أصدقائه عندما وقع نظره على شريط غابة صغير غير مطالب به بين صربيا وكرواتيا. بالنسبة لمعظم المراهقين، كانت تلك مجرد قطعة أرض عابرة على الخريطة، لكن بالنسبة له، كانت البداية لمغامرة فريدة من نوعها، تأسيس دولة جديدة أطلق عليها اسم فيرديس. اليوم، وفي العشرين من عمره، يشغل جاكسون منصب رئيس هذه الجمهورية الصغيرة، لكن الحياة فرضت عليه العيش في المنفى بعيدًا عن الأرض التي حلم بها.
فيرديس ليست مجرد حلم شبابي؛ إنها تجربة سياسية وقانونية متكاملة. بينما يتميز مقر الرئاسة عادةً بالفخامة والرتابة الرسمية، كان منزل جاكسون في دوفر، كينت، بسيطًا وعاديًا، بلا أعمدة أو حراس أمن، إلا أن صالة المعيشة حملت كل رموز الدولة، علم معدني صغير مثبت على سترته، وعلم قماشي كبير على حامل في الزاوية. هذه الرموز الصغيرة تمثل كل شيء بالنسبة له، فهي تذكره بأرضه الصغيرة وحقوقه التي يسعى لتحقيقها.
جاكسون، المولود في أستراليا لأبوين بريطانيين، قضى سنواته الأولى في ملبورن. وعند سن الرابعة عشرة، انطلقت فكرة فيرديس بعد أن اكتشف هو وأصدقاؤه مساحة غابة مهجورة عبر الإنترنت وقرروا المطالبة بها، مستلهمين من مبادرة ليبرلاند، التي حاول شاب تشيكي تأسيسها قبل عدة سنوات. مساحة فيرديس تبلغ 1.6 هكتار، أكبر قليلاً من الفاتيكان، ولم تكن مأهولة سابقًا.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة " الغارديان " البريطانية يشير جاكسون إلى أن عدم وجود مطالبات رسمية من صربيا أو كرواتيا يمنحه الحق وفقًا للقانون الدولي، قائلاً: "كنا أول من طالب بها، لذا فهي لنا."
على الرغم من صغر حجمها، فقد بدأ جاكسون وفريقه بتنظيم شؤون الدولة الصغيرة على نحو كامل. تم وضع حكومة، سنّت قوانين، ورسمت خريطة للمنطقة. أُنشئ علم دولة بسيط باللونين الأزرق والأبيض، وتم إصدار جوازات سفر، تلقت الدولة 15 ألف طلب للجنسية وقُبل 400 منها.
مع مرور الوقت، أصبح لدى الدولة طموحات أكبر مثل تطوير الهوية الوطنية، التركيز على القضايا البيئية، وجذب الانتباه الدولي، حتى ولو لم تعترف أي دولة بها رسميًا بعد.
الصراع القانوني حول فيرديس مستمر، حيث تتباين الحدود التاريخية بين صربيا وكرواتيا، إذ تعتمد صربيا خط منتصف نهر الدانوب، بينما ترى كرواتيا الحدود بناءً على خرائط قديمة.
هذا التناقض أدى إلى ظهور جيوب غير مطالب بها مثل فيرديس.
حاول جاكسون وعناصر حكومته الاستقرار هناك في أكتوبر 2023، لكن الشرطة الكرواتية طردتهم بالقوة، وأُصدرت أوامر بمنعهم من دخول البلاد، ما أجبر جاكسون على إدارة شؤون دولته من المنفى في دوفر.
رغم التحديات، لم يفقد جاكسون حماسه. يعمل حاليًا كمطور ألعاب مستقل على منصة روبلوكس، ويواصل إدارة شؤون فيرديس عن بُعد. حتى أن ممارسته للسلطة الرئاسية تظهر في أدق التفاصيل، من ملابسه الرسمية إلى ترتيب العلم في منزله، وهو يعكس جديته في تحويل حلم مراهق إلى واقع قانوني وسياسي ملموس.
تاريخيًا، استلهمت فكرة فيرديس من ليبرلاند، الدولة الصغيرة التي أسسها شاب تشيكي، لكنها تختلف في الطموحات والأيديولوجية. أراد جاكسون أن تكون بلاده الجديدة بيئية وواعية، وكان يخطط لجعلها نموذجًا للحوكمة الشبابية والمستقلة. بدأ اهتمامه يتزايد منذ عمر 18، حين قام بعدة رحلات إلى الأرض مع بعض المؤيدين، حيث أقاموا مخيمات وأجروا أعمال مسح وقياس للغابات، واضعين خططًا لتطوير الدولة خطوة بخطوة.
التحديات لم تتوقف عند الحدود أو الشرطة الكرواتية، بل شملت التمويل أيضًا. إذ اعتمد جاكسون وفريقه على عدة وسائل لدعم الدولة، بدءًا من بيع منتجات تحمل شعار الدولة إلى طلب التبرعات، وإنشاء برنامج منح الجنسية مقابل الاستثمار. حتى الآن، تمكنوا من جمع تبرعات بما يزيد عن 37 ألف دولار من متابعي العملات المشفرة عبر عملة خاصة بفيرديس تُعرف باسم $Verdis.
كما أن التحدي الاجتماعي كان حاضرًا، فالانخراط في الدولة الصغيرة كان أغلبه من الشباب والرجال، ما جعل جاكسون يلاحظ صعوبة جذب نساء للمشاركة في الحكومة.
رغم كل التحديات، ظل جاكسون يحافظ على رؤية واضحة لمستقبل فيرديس. فهو يتصورها دولة محايدة، "حل وسط بين الدول الأخرى"، ومركزًا للمنظمات غير الحكومية، مع التركيز على القيم الإنسانية، إذ عمل معظم الوزراء السابقين في أعمال خيرية، بما في ذلك دعم أوكرانيا من خلال مؤسسة DIY Ukraine.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن جاكسون ليس مهتمًا بعضويته كهدف رسمي، لكنه معجب بالمنطقة ويأمل في الحصول على اعتراف رمزي بالوجود الأوروبي. على الجانب الثقافي، تأمل فيرديس بالمشاركة في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن)، وقد تلقوا بالفعل دعمًا من بعض الفنانين الأوروبيين الذين أبدوا إعجابهم بالمشروع.
التحديات القانونية تبقى مستمرة، فحتى لو اعتبر القانون الدولي مطالبتهم بالأرض صحيحة، فإن التطبيق العملي صعب للغاية بسبب رفض السلطات الكرواتية التعاون. فقد حاول مواطنو ليبرلاند رفع قضايا مشابهة، لكنها أُغلقت بحجة وقوعها خارج الأراضي الكرواتية. ومع ذلك، يظل جاكسون متفائلًا، معتمدًا على الإعلام واهتمام المجتمع الدولي لتعزيز موقف فيرديس.
رغم صغر حجم الدولة، يمتد اهتمام جاكسون لكل تفاصيلها. فهو يسافر بانتظام إلى المنطقة لرفع مستوى الوعي، يتابع شؤون مواطنيه، وينظم حملات لتطوير البنية التحتية والخدمات، بما في ذلك السياسات البيئية والمجتمعية. وأوضح أنه بمجرد أن تصبح الدولة مستقرة ومُعترف بها جزئيًا أو كليًا، يخطط للتنحي عن الرئاسة ليعود إلى حياة المواطن العادي، مفسحًا المجال لقادة جدد.
على الرغم من أن المشروع بدأ كمغامرة مراهقة، إلا أنه أصبح نموذجًا للتفكير خارج الصندوق، حيث دمج الشباب القانون الدولي، الإدارة، والإبداع في تجربة عملية، تكاد تكون فريدة في العالم. يقول جاكسون مبتسمًا: "البدء بمشروع مجنون يجعل العالم أقل مللًا… ومن دون المجازفات، لا نكتشف أبدًا ما يمكننا تحقيقه."
فيرديس ليست مجرد قطعة أرض صغيرة، بل مثال حي على شجاعة الأفكار الشبابية والقدرة على تحدي الواقع السياسي، حتى لو تطلب الأمر العيش في المنفى. هذه الدولة الصغيرة، التي لا تتجاوز هكتارين، تحمل في طياتها طموحًا كبيرًا، وتعلمنا أن الجرأة على التجربة قد تصنع فرقًا، مهما بدت البداية صغيرة أو مستحيلة.
