كنا أشباحاً أربعة، نسير عبر الظلمة الخافتة، بين فينة وأخرى يشتت ضوء عربة عابرة كتل الظلمة، فتتبين لهنيهة صور عديدة، ترى من بينها ابنك الميت بمرض السل، ويتهيأ لك أنبياء يهدون الأشباح عن ضلالاتهم، ترى صورة أمك التي رحلت وأنت ابن عشرة، يومها لم تفهم فلسفة الموت وبكاء أهلك، ذهبت إلى ترعة «كورينا» وسبحت حتى جفّت شفاهك ونزفت دماً أحمر يميل للسواد، تحول لونك إلى الأزرق، وأصابتك حمى.. تحاملت على كتف صديقك «مجوك» راعي البقر، وعاد بك شبه ميت، ظن الجميع أنك حاولت الانتحار، لم يروا في عينيك الغائرتين صورتك وأنت تغني وسط الماء أغنية «البرتقال أبو صرة»، لم يسمعوك تعزف على آلة الفلوت بعض مجون موزارت، من علمك تلك المقطوعة أيها البدوي البائس؟؟.
لا يزال سيرنا متواصلاً والأشباح، بين لمحة ولمحة تحاول سرقة أجسادنا لتعود إلى متعة الحياة، كان صديقنا زينو يحكي لعمنا الصديق حكاية بذيئة فتبتسم الأشباح ببلاهة، أسرع حتى لا يدركني صوت زينو القبيح ونكاته البذيئة، لولا رمضان لحكيت لكم واحدة.. اللهم إني صائم، خطاي تتحركان في صورة ديناميكية حتى إنني لا أعود أميز بين صوت زينو ومجاهد صاحب البطن المنتفخة، حين يتكلم أشعر أن أصواته تجد معاناة لتخرج من بين الجبال والوديان التي يحملها أمامه.. أتذكر رواية «حفلة التفاهة» لصديقنا كونديرا وما بينه وبيني خيط رفيع لولا التباعد الزماني ونكات زينو التي لا ينقطع وابلها.
نقترب قليلاً، شبح أحمر يكسو رأسه بياض، يلاحقني، أنفض رجلي منه «يتمسك» بقدمي الأخرى، أحاول جاهداً أن يتركها، تضيع رجلي في جمجمته أهمّ بالصراخ، لكنني أتذكر زينو وما سيقوله عني إن وصلنا، كتمت خوفي هرولت.. جريت، الشبح يمسك ساقي أنتفض بكلي، أهز جسدي، لا ينفك عني الشبح اللئيم يتطاول إلى أعلى، أحس بالاختناق، أتذكر الآن «حسنة» حين قبّلتها بين أشجار الطلح الحمراء، قبلة بريئة في مطلع الطفولة، الشبح يخنقني أريد هواء، أحاول الصراخ لكني لا أستطيع، ألوح بيدي ضارباً بكلتيهما في الفراغ وجسدي، الظلمة تغيم في وجهي، تتحول إلى بياض باهت، يجن جنوني، أشعر بشيء ثقيل يسقط في العراء، ودون أي مبررات ومنطق أجدني وسط الأشباح، الحياة عندهم مضيئة أرى عربة تصطدم بي لكنها تعبرني وكأنني أصبحت شبحاً، شبح ضوئها يحرق عيني، أسبّ السائق والركاب وأكاد أنزل عليهم لعنتي، لولا أني سمعت زينو يضحك خلفي، آه يا زينو اللعنة عليك حياً وشبحاً وحتى تأكلك نار سقر، تذكرت شيخ زكريا وهو يذكرنا بالنار والجنة وفراديسها اللامتناهية في الجمال الذي لم يخطر على بال بشر، ما كان يزعجني أنه يقولها بثقة ويأمل بدخولها، وهو يمارس لعبته القذرة مع الكثير من الحواريين في الليل، بادعاء أنه يلهم مريديه أسرار الله العظمى، وفي الفجر يريك الجنة تصاوير وعين يقين.
الآن هنا حيث الساعة رمزية، أصوات بكاء «بكارولاينا» تتجمع مئات الأطياف خلف حديقة كنيسة «تشارلستون» لتقوم بواجب استقبال الأموات التسعة، ونحاول جهدنا أن نكتم أصواتنا كي لا يهرب ذوو الضحايا، عربات «FBI» والحكومة الفيدرالية والمجالس السرية ووحدة مكافحة الإرهاب، وﻋﻤﺪﺓ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﺟﻮﺯﻳﻒ ﺭﻳﻠﻲ ﺟﻮﻧﻴﻮﺭ، جميعهم في هلع وخوف يحاولون أن يهدئوا من روع أهل الضحايا، نسمع صراخاً خلف الميناء، إنه انفجار آخر، تقوم مجموعة من الفرقة باستقصاء الأمر ثم يبين الخيط، انفجار إرهابي في مكان آخر.
تشرق الشمس فتلامس قلبي أشعتها الساحرة متغلغلة من خلالي لتنسكب على الخمائل ورؤوس الجبال ذات الأسنة الذهبية، أستمتع كل صباح بسرب الفراشات، وأرى روح ساندا تحولت إلى فراشة ذات ألوان ساحرة، ربما هي الآن نائمة، وربما تغسل وجهها بالفجر فتمارس الشمس سحرها علي.
حان الوقت يا رفاقي أن أعود إلى مسكني الأبدي، ولو أتيحت لنا الفرصة أن نلتقي ربما حدثتكم أكثر عن عوالم ما خطرت ببالكم.. ها هو صديقي زينو برفقة صديقنا الطيب صالح ومعهم الرفيق توماس ترانسترومر كعادته «مصطفى سعيد» يتحدث بهدوء، لكن هيئته تغيرت كلياً حيث يمكنك أن ترى في وجهه ذاك السحر الذي أغرى به النساء اللواتي قام بقتلهن في حجرته السرية، «ذات العطور الغاوية والغابات الأفريقية، وانسياب نهر النيل أسفل بيتهم مباشرة»، أما توماس فحيانا كعادته بمقطوعته التي نهوى سماعها ولا نمل وقعها «في منتصف الحياة يأتي الموت ليأخذ مقاساتنا هذه الزيارة تنسى وتستمر الحياة، لكن الثوب يخاط بلا علم منا».
