مشاهدة الجرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا
صحيح أن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر بينما التعلم في الكبر كالنقش على الماء، ولكن هنا في «ملتقى الأسرة» التابع لهيئة الصحة في دبي، انقلبت الموازين، فهم كبار ولكنهم يضاهون الشباب بشغفهم في القراءة وحب المعرفة، فخلال 120 دقيقة يعيش «الشياب» في حضرة الكتاب، في الملتقى بشكل يومي، لتــمتزج الخبرة بالمعلومات والأفكار المختلفة التي يكتسبونها من خلال قراءة الكتب، إذ كسروا العوائق أمامهم، وتسلحوا بالحكمة والعلم.
فعلى الرغم من عدم معرفة بعض كبار السن بالقــــراءة والكتابة، إلا أنهم استطاعوا تذليل هذه العقبات، ليعيشوا أجواء يملؤها الأمل والتـــفاؤل والتنافس أحياناً، خاصة في ظل المسابقات اليومية التي تنظم داخل الملتقى، والتي تُعنى بالدرجة الأولى بالتراث والمصطلحات القديمة، التي تحمل دلالات مختلفة.
لحظة دخول «البيان» إلى الملتقى، لفتنا وجود العديد من الشياب الذين كانوا يرددون الأغاني القديمة وقصائد تستدعي ذكريات الزمن الجميل، بالإضافة إلى وجود عدد من الطالبات من مدرسة «المسيرة»، واللواتي قمن بعمل مسابقات مختلفة للشياب.
ويأتي ذلك في إطار الزيارات المتواصلة للمدارس إلى الملتقى، للجلوس برفقة هؤلاء الشياب، الذين يحملون في جعبتهم الكثير من الحكايات القديمة، والتي لا يمل أحد سماعها، فتجد الوقت يمر بسرعة البرق، وأنت مشدود الانتباه إلى حكاياتهم القديمة، التي تعيدك إلى الوراء قليلاً، لتشتم بين أركان الملتقى عبق الماضي الأصيل.
نهضة
ويبدو جلياً في برامج الملتقى، الدور النوعي لمبادرة قيادة الإمارات «2016..عام القراءة»، في تحقيق فوائد فكرية كثيرة وترسيخ المعرفة وحب الثقافة في نفوس الشياب. إذ جعلت المبادرة الكتاب رفيقاً لكبار السن في الملتقى. وهكذا تجد في عيونهم شغفاً لسماع القراءات حول مضامين الكثير من الكتب التي تثير معرفتهم.
وفي هذا الصدد، وضع الملتقى خطة معمقة حتى يستطيع الشياب أن يكونوا جزءاً من هذه المبادرة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، ووجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بتبني إحدى آليات العمل لتعزيز تجسيدها الخلاق وجدواها لدى كافة قطاعات المجتمع.
وهكذا فإنه يواصل طاقم عمل متخصص في الملتقى، بشكل يومي، القراءة لمدة ساعتين للشياب، وتلك القراءات هي من كتب ومؤلفات في حقل التراث والتاريخ، وخصوصاً تاريخ الإمارات وأبرز حكامها وأعلامها.
الشحي وعبيد وثالثهما «الحياة البرية في الإمارات»
في أركان المركز، التقينا محمد الشحي، 75 عاماً، وهو لا يعرف القراءة والكتابة، ولكن تجذبه الكتب التي تتحدث عن التراث والقصص الشعبية. وأثناء وجودنا في المركز، كان يردد أهازيج وأغاني تراثية وأخرى قديمة، وكان الجميع يصفق له.
وهناك أيضا، عبيد بخيت، الذي يبلغ من العمر 75 سنة، والذي يحفظ الأهازيج الشعبية، حيث ردد هو الآخر الكثير منها، إذ إنه كان في أيام شبابه عضواً في فرقة دبي للفنون الشعبية.
وفي تلك الجلسة، بدا جليا التناغم بين الشحي وبخيت، واللذين أحييا جماليات الماضي بنغمها وروحيتها في أرجاء المكان عبر ترديد مختلف الأهازيج. وأشارا في حديثهما إلينا، إلى أنهما يكونان سعيدين جدا حين يقرأ لهما أحد العاملين في الملتقى الكتب، وتحديداً كتاب «الحياة البرية في الإمارات».
حنضول ومرسي فارسا الشعر والتطوع
محمد بن حنضول، 79 عاماً، يشارك في مختلف الفعاليات، وعلى الرغم من عدم معرفته هو الآخر بالقراءة والكتابة، إلا أنه يلقي الشعر على مسامع أصدقائه في المركز، بطريقة احترافية، وذلك يعود إلى الثراء الفكري الذي يواظب عليه في الملتقى.
أما السيدة نجيبة مرسي، والتي عملت مدرّسةً لمدة 30 عاماً، فهي تحاول، إلى جانب ذهابها اليومي إلى المركز، التطوع في القراءة لبقية الشياب، وكذلك مساعدتهم في تناول المأكولات، إذا كان هناك أحد يعاني صعوبة في الاعتماد على نفسه.
صحبة
حسن محمد جنيد عمل لمدة 50 عاماً إمام مسجد في منطقة الشندغة، وهو يجد متعة كبيرة، كما قال، حينما يتلو آيات من القرآن الكريم ويفسرها لبقية الحضور في الجلسة الصباحية في الملتقى.
ويؤكد أن «عام القراءة» جعله يعود إلى قراءة مختلف الكتب، إلا أنه يميل أكثر إلى الكتب الدينية، وخلال وجوده في ملتقى الأسرة استطاع تكوين رفقه جديدة، وأجواء عائلية وثقافية مميزة، حيث يجتمعون يومياً كي يقرأ لهم أحمد الزين مختلف الكتب، بالإضافة إلى الأنشطة المختلفة.
جلسات نقاشية
توضح الدكتورة سلوى السويدي، طبيب أخصائي أول- طب المسنين والشيخوخة، ومدير ملتقى الأسرة، أن القراءة تلعب دوراً في تقليل معدلات الاكتئاب والتوتر العصبي، ذلك لأن القارئ يكتسب أبعاداً فكرية جديدة ربما تقلل من سلبية أفكار معينة اكتسبها بفعل بعض التجارب الاجتماعية والشخصية.
وتعد القراءة أحد الأمور الأساسية في مقاومة وردع الأمراض العصبية البسيطة، مثل: الصداع والأرق. وتبين السويدي أن الملتقى يحمل في جعبته العديد من الخطط الخاصة ب«عام القراءة»، منها: الاهتمام بإنشاء مكتبة، القراءة للمسنين بشكل يومي في جلسة نقاشية موسعة تناقش خلالها النقاط التي شملها الكتاب بطريقة مفـــصلة، بالإضافة إلى الكثير من الأنشطة.
منجم حكايات وكنز ثمين
يؤكد أحمد محمد الزين، مساعد ضابط إداري في ملتقى الأسرة، أن كبار السن أصبح لديهم شغف ولهفة لسماعه وهو يقرأ لهم الكتب، إذ تعودوا على قراءته لهم بمعدل ساعتين يومياً، وذلك تماشيا مع خطة عمل ملتقى الأسرة في عام القراءة.
ويضيف أحمد: لأن بعضاً من كبار السن يعانون ضعف الذاكرة، فأنا أحاول كل يوم تذكيرهم بما قرأت، ولفت انتباههم لكلامي، وبالفعل لاحظنا تجاوباً كبيراً منهم، فهم لديهم الكثير من المعلومات الخاصة بالتاريخ الإماراتي، والألغاز التراثية الصعبة، والشعر وغيرها من المجالات، فهم بمثابة الكنز الثمين،الذي يحتاج فقط للعناية والاهتمام، حتى يظهر لمعانه.
فالخبرات والحكايات التي في جعبتهم، يمكن لأي مؤلف أن يستفيد منها ويشرع في تأليف كتب تتخصص في التراث.
ويؤكد الزين أن القراءة المنتظمة بكونها واحدة من الأنشطة الدماغية ومصدراً لتعزيز المهارات العقلية، تقلل من فقدان الذاكرة وتَحِدُ من الإصابة بمرض الزهايمر؛ فقد أظهرت بعض الدراسات أن القرّاء، من الذين أصيبوا بمرض الزهايمر، ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالمرض في وقت متأخّر مقارنةً بغيرهم من غير القرّاء.
وينبه الزين إلى أنه في الملتقى تعد قراءة الصحف اليومية جزءا من حياة كبار السن.. وتحديداً الأخبار المحلية التي تخص الدولة، مشيراً إلى شخصياتهم المختلفة، فهناك من يود معرفة كل ما هو جديد، والآخر الحساس الذي لا يرغب في سماع الأخبار التي تحمل نوعا من الحزن. وهذا ما يجعله دقيقا في اختيار الأخبار التي يقرأها لهم، منوهاً بأنه يحاول تقديم الأخبار لهم بشكل مبسط وسلس دون أي تعقيدات.
برامج ثقافية شاملة ومتابعة دقيقة
تتعجب سلوى السويدي من جملة أفكار خاطئة يظن من خلالها البعض أن دور المسنين هي مجرد مكان للعجزة يبكون فيه ويستذكرون أحزانهم، وتلفت إلى أن هذه المسألة كانت فحوى معظم الأجوبة التي سمعتها من كبار السن، للمرة الأولى.
ولكنها بعد ذلك تغيرت الحال تماماً حيث شعروا جميعاً أنهم أصبحوا جزءاً من عائلة كبيرة.. فهناك أكثر من 28 مريضاً مقيماً و130 من المراجعين الخارجيين، مشيرة إلى أن المريض المقيم هو الذي ليس لديه أقارب من الدرجة الأولى، أما بالنسبة لمن لديه عائلة فهم لا يقبلون وجوده بشكل دائم، لأن المكان الأمثل لكبار السن هو وسط عائلتهم.
وتوضح السويدي أنها تتابع عبر فريق العمل، جميع التفاصيل اليومية الخاصة بالمسنين، مبينة أن كل ما يحدث يسجل بشكل رسمي، مثل حالة المقيم النفسية والجسدية. وتضيف: نحن نبدأ يومنا في الصباح بتلاوة القرآن الكريم، والجميع يستمع إلى أذكار الصباح والمساء، ذلك عن طريق مكبر الصوت حتى نتمكن من إسعاد الجميع وبث الراحة في نفوس من يعانون ضعف السمع خاصة.
ولدينا برنامج حافل بالنشاطات سواء داخل الدار أو خارجها، كي لا يشعر المسن أنه في عزلة عن العالم الذي كان يعيش فيه، ويتضمن البرنامج زيارات للفعاليات التي تقام في دبي أحيانا، وكذلك ننظم رحلات إلى مختلف أنحاء الدولة، حتى يبقى المسن على تواصل مع المجتمع.
كما تشير السويدي إلى أن هناك عدداً من المسنين يمتلكون حسابات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
