ربما يشعر الإنسان بالأسى، عندما يعلم أن الفنان الهولندي فان غوخ لم يبع في حياته لوحة واحدة، بل كان يعيش عيشة المتشرد، في حين تباع لوحاته الآن بملايين الدولارات، وهذا ما يؤكد أن المبدع يسبق زمنه بأزمنة. وإن كان المبدع قد ترك أعماله للزمن، فستبقى حاضرة بقوة وتتميز عن غيرها من الأعمال، التي تساقطت، مع الأيام، فكل تاريخ مضى، حمل بين طياته أسماء لأشخاص( محسوبين ) على الفن والإبداع، إذ لا يمكن التوفيق باستمرار بين المضمون والشكل.
وإن كان العالم يعترف بعبقرية الفنون القديمة، لحضارات اندثرت عبر التاريخ البشري، أو لمئات الرسامين الآخرين، من مختلف الجنسيات، فهم يعترفون بأهمية تجربة فنان مثل ( فان غوخ ) الذي جعل من لوحاته مهرجانا لونيا، يقبع تحت لمسات ألوانه السميكة رؤية عميقة للعالم. جعلت الشاعر الفارسي
«سعدي قرمة جافة» يقول عنه: (من الصعب أن نجد مثالاً على التخلي عن النفس باسم الفن أكبر من حياة فان غوخ). لقد كان فان غوخ فنانا، يبحث عن تنظيم عادل للعالم، كما سمى نفسه رسام الناس البسطاء، فهو من قال: (ليس هناك أكثر فنية من أن تحب الناس).
ونجد هذا في تميزه بمواضيعه التي رسمها، مستوحاة من قاع اليأس والمعاناة الإنسانية مثل لوحتي «آكلو البطاطا، وجولة السجناء» ومن العنوان يمكن أن يستشف الإنسان قبل مشاهدة العمل، أن غوخ يجابه واقعا ما في لوحاته، ونادرا ما يفعل الفنانون هذا، إنما يفعله الأدباء، فمعظم الفنانين رصدوا الجمال وربما ذهبوا بعيدا في الشكل على حساب المضمون،
بينما حافظ غوخ بأصباغه التي قد تتباعد بعضها عن بعض، بشكل كثيف ومتماسك، وبجنون التناقضات اللونية في أحيان كثيرة، وبحرارة مدينة «آرال» التي عاش فيها، حافظ على انسجام الفكرة التي تعكس واقعاً أليماً مع اللون الذي يشكل مصدراً للجمال، استوحتها عينه من ذلك التلون الذي يتناوب على الأرض باختلاف فصول السنة، وذلك التنوع الذي تهبه للعين في كل تحولاتها التي لا تتشابه، لتتسلل جميعها مع ضوء النهار، بنقائه وحدته، إلى لوحاته.
وهذا ما يجعلنا نقول ان هناك الكثير... الكثير من الأمور التي ساقت فان غوخ إلى هذا الأسلوب، دون غيره من الأساليب. ليصبح بعد موته واحداً من الفنانين العظماء في العالم. فتجربته تدل على ما قيل وعرف بأن الفن يتطلب من الفنان أن يهب نفسه كلها دون ندم، وفي هذه الحالة بالذات ينال الفنان القوة غير المفهومة، التي تتبدد إبداعاً مبهراً. وبقي تفرده في مواضيعه، تأكيداً أن الرسم ناقل جيد للواقع الراهن مهما كان أليماً، فالرسم كما هو معروف يعتبر ظاهرة رائعة بحد ذاتها، وهدفا قائما بذاته، ضمن سلسلة من الظواهر المدهشة الأخرى.
