مارتن ساندبو

لطالما تساءل كثيرون عن شكل الاقتصاد العالمي في ظل غياب الولايات المتحدة، وماذا سيتبقى إذا انفصلت أمريكا فعلاً عن الاقتصاد العالمي والمؤسسات التي تحكمه، التي بناها الأمريكيون على مدى جيلين بعد الحرب العالمية الثانية؟، أو ماذا يمكن أن يتبقى، إذا ما ردت الدول الأخرى بالطريقة التي يتعامل بها دونالد ترامب؟

يبرز هذا التساؤل نفسه بقوة في مجال التجارة، حيث لاحظنا مبكراً أن معظم الدول أقل اعتماداً على الصادرات إلى الولايات المتحدة مما قد يتصوره البعض، ومن الأفضل لها أن تسعى إلى تقليل هذا الاعتماد أكثر. وربما ينبغي عليها أن تقلق أكثر بشأن الانسحاب المالي الأمريكي، والذي قد يتجلى في تراجع دور الدولار الأمريكي (مع أن هذا يتيح لأوروبا فرصاً يمكن للاتحاد الأوروبي اغتنامها لو كان أقل تردداً).

الجانب الأقل وضوحاً يتعلق بتأثير ذلك على الحوكمة العالمية. ففي الربيع الماضي، كتبتُ عن إمكانية إنقاذ الإطار المؤسسي العالمي الذي بنته الولايات المتحدة. وأود اليوم أن أستعرض كيف تطورت هذه الأجندة هذا العام. في مقالي السابق، سلطتُ الضوء على اتفاقيتين دوليتين هامتين أُبرمتا خلال الأشهر الأولى من ولاية ترامب الثانية: الأولى بشأن التأهب للأوبئة تحت رعاية منظمة الصحة العالمية، والثانية بشأن فرض ضرائب على انبعاثات الكربون من الشحن البحري، في المنظمة البحرية الدولية. كما أشرتُ إلى آلية التحكيم الاستئنافي المؤقت متعدد الأطراف (MPIA)، وهي آلية موازية لتسوية المنازعات أنشأتها مجموعة من أعضاء منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والصين، لحل الخلافات بموجب قواعد المنظمة، في حين أن إجراءات المنظمة نفسها مُعطّلة بسبب رفض الولايات المتحدة تعيين قضاة.

وقد استنتجتُ ما يلي: تعني الاتفاقيتان الجديدتان أن بقية دول العالم يمكنها الاستمرار في استخدام هياكل الحوكمة الدولية للنظام السابق الذي كانت تقوده الولايات المتحدة لصالحها. وما نتعلمه من الآلية الموازية لتسوية المنازعات هو أن هناك طرقاً لتكرار حتى الهياكل التي تمتلك الولايات المتحدة القدرة على تقويضها. وقد لا يعجب البعض ما سيأتي بعد أمريكا، لكن أمريكا التي عرفناها تركت وراءها إرثاً قوياً. والآن جاء دور بقية دول العالم لتُضيف ما يُناسبها من عبارات «كيف بدأت الأمور/ كيف تسير الآن».

ومن المهم أن اعترف بأن «بإمكان الولايات المتحدة أن تفعل أكثر من مجرد الانسحاب؛ بإمكانها التخريب بنشاط». فبعد مرور عام تقريباً على ولاية ترامب الثانية، لدينا أمثلة عديدة أخرى على تأثيرها على الحوكمة العالمية. لذا دعونا نستعرضها بالترتيب الزمني.

أولاً، في أبريل، كان تصويت المنظمة البحرية الدولية على فرض رسوم على انبعاثات الكربون. وقد اتضح أن هذا التصويت لم يكن نهاية المطاف، فرغم أن أغلبية الدول الأعضاء أقرت قانون ضريبة الانبعاثات، إلا أنه كان لا بد أن يتم اعتماده رسمياً عبر تصويت آخر في أكتوبر. وبحلول ذلك الوقت، مارست الولايات المتحدة ضغوطاً غير مسبوقة، مثل تقليص قدرة المندوبين على الحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة، ما أدى إلى تغيير موقف الأغلبية. وكما وصفه أحد الدبلوماسيين: «الأمر أشبه بالتعامل مع حشد غاضب».

ثانياً، وفي أبريل أيضاً، تم التوصل إلى اتفاق بشأن معاهدة ملزمة لمواجهة الأوبئة. وكان هذا الاتفاق أيضاً معلقاً على الاعتماد الرسمي، لكن في هذه الحالة تم اعتماده رسمياً في جمعية الصحة العالمية التابعة لمنظمة الصحة العالمية في مايو. ويُشير التباين بين سلوك الولايات المتحدة تجاه منظمة الصحة العالمية، التي تنسحب منها، والمنظمة البحرية الدولية، التي لا تزال عضواً فيها، إلى أن مؤسسات النظام العالمي لما بعد الحرب قد تكون قادرة على تحمل إهمال الولايات المتحدة، ولكنها أقل قدرة على تحمل عدوانها.

ثالثاً، في سبتمبر، حققت «معاهدة أعالي البحار» عتبة التصديق المطلوبة من 60 دولة، ما يعني أنها ستدخل حيز التنفيذ الشهر المقبل. وتُعرف هذه المعاهدة رسمياً باسم «اتفاقية التنوع البيولوجي خارج نطاق الولاية الوطنية»، وهي تنص على إنشاء مناطق محمية في البحر. وقد وُقِّعت المعاهدة في عام 2023 (بما في ذلك من قِبَل الحكومة الأمريكية في عهد إدارة جو بايدن)، لذا يُمكن القول منطقياً أن عمليات التصديق لا تُشير كثيراً إلى شروط الحوكمة العالمية. لكن معظم عمليات التصديق تمت على دفعات كبيرة هذا العام. من الواضح أن نظرة إدارة ترامب السلبية تجاه النظام الدولي القائم على القواعد لم تحل دون دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ سريعاً، على الأقل.

رابعاً، في نوفمبر، استضافت البرازيل مؤتمر الأطراف الثلاثين (كوب 30) بشأن تغير المناخ، فبعد فشل اتفاقية المنظمة البحرية الدولية، ساد قلقٌ كبيرٌ بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستلجأ إلى أساليب قمعية مماثلة لتقويض أي التزام بمعالجة تغير المناخ. وبالفعل، اعتبر الكثيرون الاتفاق النهائي ضعيفاً. لكن مجموعة من الدول شكلت «تحالف الراغبين»، متعهدةً بالعمل على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، وهو هدف لم يُدرج في إعلان مؤتمر الأطراف الثلاثين. وهذا مثال آخر، في رأيي، على الكيفية التي يمكن لبقية العالم بها أن يمضي قدماً دون الولايات المتحدة إذا أرادت ذلك.

خامساً، عقب مؤتمر الأطراف الثلاثين مباشرةً، عُقدت قمة مجموعة العشرين برئاسة جنوب أفريقيا. لم يحضر ترامب، ويبدو أن الولايات المتحدة لم ترغب في أن يوقع الآخرون بياناً في غيابه. ومع ذلك، فقد أصدر القادة المجتمعون إعلاناً. وفي نوبة غضب، قررت الولايات المتحدة منع رئيس جنوب أفريقيا من حضور قمة مجموعة العشرين في ميامي العام المقبل.

سادساً، خلال الأسبوع الماضي فقط، اتخذت الولايات المتحدة موقفاً متشدداً تجاه منظمة التجارة العالمية. ففي رسالة شديدة اللهجة، أعلنت إدارة ترامب أنها لم تعد تدعم مبدأ عدم التمييز الذي بموجبه تمنح جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بعضها بعضاً وضع «الدولة الأكثر رعاية». أي أن التنازلات الجمركية التي تقدمها لأي دولة عضو ملزمة بتقديمها لجميع الدول الأعضاء، ما لم توقع اتفاقية تجارية ثنائية رسمية تغطي «جميع التجارة تقريباً».

وليس من المستغرب أن ترفض الولايات المتحدة مبدأ الدولة الأكثر رعاية؛ فقد تجاهلت هذا المبدأ في جميع «الاتفاقيات» التجارية الثنائية التي فرضتها على حلفائها هذا العام. لكن من غير المستغرب التخلي رسمياً عن حجر الزاوية في النظام الذي تأسست المنظمة على أساسه. وإذا زال مبدأ الدولة الأكثر رعاية، فماذا سيتبقى من منظمة التجارة العالمية؟ قد تكون هناك حالات أخرى تستدعي الدراسة. لكن هذا يكفي بالفعل، ومن خلاله يمكن استخلاص دروس ثلاثة، مع بعض التباين في النتائج:

أولاً: من الواضح أن الولايات المتحدة انتقلت «من الانسحاب إلى المواجهة» في نظام الحوكمة العالمية لما بعد الحرب، كما ورد في كتابٍ مُحدّث عن اقتصاديات إدارة ترامب الثانية.

ثانياً: قدرة الولايات المتحدة محدودة. لذلك، بات عليها أن تختار معاركها.

ثالثاً: لا تزال أمام الدول الأخرى فرصٌ عديدة لتجاوز الولايات المتحدة في الحوكمة العالمية، إن كانت مستعدةً لتحمّل التكلفة المتزايدة أحياناً.

إذاً، كل شيء يتوقف على مدى تماسك الدول الأخرى في الحفاظ على التعددية فيما بينها - فالقوة في الوحدة، في نهاية المطاف. وفي ظل شراسة الولايات المتحدة في محاولتها تقويض التعددية، أتوقع تصاعد حدة المواجهة.