باتريك جينكينز

قبل فترة ليست بالبعيدة، كان الناس يعرفون أوضاعهم المالية بدقة. كانت البنوك المركزية؛ مثل الاحتياطي الفيدرالي أو بنك إنجلترا، تصدر الأوراق النقدية كالدولار والجنيه الاسترليني، ليستخدمها الناس في عمليات الشراء والبيع، لكن إذا صدقت توقعات بعض خبراء التكنولوجيا، فإن أحد أحدث التوجهات في تكنولوجيا المدفوعات - العملات المستقرة - على وشك دخول «دورة فائقة» ستغمر العالم بأكثر من 100 ألف نظام دفع من هذه النوعية، خلال خمس سنوات. ومع ذلك، فإن التوافق بين هذه العملات - وهي في الأساس عملات مشفرة مرتبطة بأخرى حقيقية – سيستلزم بنية تحتية مالية جديدة كلياً، ولا عجب إذاً أن تشعر المؤسسات المالية القائمة بالكثير من التوتر والقلق، إذ قال لي أحد المسؤولين: «الأمر سيتطلب إعادة هيكلة جذرية للنظام المالي الحالي».

وللعملات المستقرة القائمة على تقنية البلوك تشين استخدامات متعددة ومتطورة، وفي الدول التي تعاني من عدم استقرار عملاتها قد يكون ربط العملة المستقرة بالدولار أمراً جذاباً، كما أنه في الدول التي تعاني من بطء أو خلل في أنظمة الدفع تقدم هذه العملات بديلاً فعالاً، وقد تبنت الإدارة الأمريكية الحالية بالفعل العملات المستقرة، معتبرة إياها مصدراً قيماً للطلب على سندات الخزانة الأمريكية، ووسيلة لتعزيز هيمنة الدولار.

وقد يكون هذا التغيير في الوضع الراهن مفيداً من نواحٍ عدة، إذ ستواجه خدمات تحويل الأموال باهظة الثمن منافسة شرسة، كما قد تتأثر بشكل مماثل شركات بطاقات الائتمان، التي طالما وجهت إليها انتقادات بسبب الرسوم المرتفعة، التي تفرضها على التجار. كذلك بالنسبة لاقتصاد عالمي يعتمد على ما يسمى نظام الاحتياطي الجزئي المصرفي - الذي يحول ودائع مجموعة من عملاء البنوك إلى قروض تمنح لآخرين - فإن العملات المستقرة تنذر أيضاً بتراجع كبير. ولأنها تسهل عمليات الدفع لا الائتمان فإنها قد تهدد، حال اجتذابها ودائع جماعية ضخمة، عمليات التمويل لدى البنوك وقدرتها على توفير الائتمان للاقتصاد.

وتشعر البنوك المركزية، خصوصاً خارج الولايات المتحدة، بالقلق، فالبنك المركزي الأوروبي، على سبيل المثال، يخشى فقدان سيادته وسيطرته على السياسة النقدية، لذلك فهو عازم على إطلاق عملته الرقمية الخاصة في أسرع وقت ممكن. وتتزايد المؤشرات على أن البنوك التجارية تخشى أيضاً من العملات الرقمية الجديدة، ففي محاولة لمنع العملات المستقرة من تحويل قواعد ودائعها الحيوية تتخذ بعض البنوك إجراءات استباقية، إذ تستخدم تقنية سلسلة الكتل (البلوك تشين) سجلاً موزعاً (كما تفعل العملات المستقرة)، لتحويل الودائع التقليدية إلى «رموز ودائع». وصرح تشارلي نان، الرئيس التنفيذي لبنك لويدز، خلال قمة فايننشال تايمز المصرفية هذا الشهر: «إذا فكرنا في الأصول الرقمية والودائع المرمزة باستخدام الذكاء الاصطناعي فسنجد أنه بإمكاننا إعادة تصميم أجزاء كبيرة من الخدمات المالية».

وبنك لويدز ليس الوحيد في هذا المسعى، إذ يجري العمل على مشروع تجريبي مع بنوك بريطانية أخرى، تحت إشراف بنك إنجلترا، الذي يسعى لضمان قابلية التشغيل البيني، وقد تحدثت سارة بريدن، نائبة محافظ البنك، عن ضرورة الاستعداد لـ«عالم متعدد العملات»، إذ أطلق بنك إنجلترا الشهر الماضي مشاورات حول الإطار التنظيمي المقترح للعملات المستقرة والخدمات المصرفية المرمزة.

وحتى الآن لا تشكل المعاملات بالودائع المرمزة سوى جزء ضئيل من قطاع الخدمات المصرفية العالمي، وحتى بنك جيه بي مورغان الأمريكي العملاق، الرائد في مجال التجريب، لا تتجاوز مدفوعاته الرقمية 5 مليارات دولار يومياً، مقارنة بمدفوعات تقليدية تصل إلى 15 تريليون دولار، لكن المصلحين يرون أنه في حال حل مشكلات التوافق التشغيلي ستكون البنوك في وضع قوي لاستغلال مزايا الكفاءة، التي توفرها الرموز الرقمية، وصد منافسة العملات المستقرة.

على سبيل المثال يمكن لعملاء البنوك بتنوع جنسياتهم تحويل الأموال بين عملياتهم العالمية على مدار الساعة، دون أي تأخير أو الحاجة إلى بنك مراسل في موقع بعيد، لكن عملاء البنوك، على عكس مستخدمي العملات المستقرة، يتمتعون بحماية قوانين مكافحة غسل الأموال، والحد الأدنى لرأس المال، ومتطلبات الإبلاغ الشفاف، بالإضافة إلى ضمانات البنك المركزي، وتستحق ودائع البنوك - سواء كانت رقمية أو تقليدية - فوائد، بينما لا يمكن للعملات المستقرة دفع فوائد بموجب القانون الأمريكي والأوروبي، كما يتيح النظام المصرفي القائم على الرموز عزل الأموال في حسابات ضمان آلية لدعم بيع الأصول، بينما يمكن للعقود الذكية أتمتة بعض عمليات الدفع، وستسهم هذه التسهيلات بشكلٍ أوضح في تحديث الخدمات المصرفية للشركات أكثر من الخدمات المصرفية للأفراد، مع أن هناك قناعة بأن خيار الضمان قد يسهل تمويل الرهن العقاري وشراء المنازل.

كل ذلك لا يزال في مراحله الأولى، لكن حتى لو حرص صانعو السياسات على الحفاظ على أسس النظام المالي الحالي فإن العملات المستقرة والودائع المصرفية المرمزة تبدو مهيأة لعصر جديد من التمويل الرقمي، والأمر المؤكد الوحيد هو أن الأمور ستزداد صعوبة بلا أدنى شك على من يرفضون التكنولوجيا.