إدوارد لوس

ينظر إلى سوق سندات الخزانة الأمريكية باعتبارها القوة الوحيدة التي نجحت حتى الآن في كبح جماح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو على الأقل دفعه لإعادة النظر في قراراته. يأتي ذلك فيما يبدو الجمهوريون متقاعسين، والديمقراطيون غارقين في الفوضى، بينما يحرص الرؤساء التنفيذيون على الاختباء والاحتماء.

إلى ذلك، يسير الشركاء التجاريون الأجانب للولايات المتحدة حول ترامب بحذر بالغ كما لو كانوا في حقل ألغام، ويحاول بعض القضاة عرقلة الأمور إلا أنهم لم يغيروا المسار. وعموماً، فإن أكثر ما يثير الخوف لدى ترامب هو ارتفاع تكلفة الاقتراض.

لكن هذا الخوف عرضي، إذ تراجعت أسعار سندات الخزانة الأمريكية مرتين بالتزامن مع انخفاض الدولار. ويتطلع المستثمرون الأجانب إلى تعويض مجزٍ نظير تحملهم مخاطر الاحتفاظ بالديون الأمريكية. ونظراً لأن انخفاض أسعار السندات يعني ارتفاع عوائدها، فإن الدولار وسندات الخزانة يسلكان في العادة مسارات متعاكسين.

في المرة الأولى، خلال أبريل، علق ترامب حربه الجمركية العالمية لمدة 90 يوماً، ما دفع أسعار السندات إلى التعافي. وفي المرة الثانية، الأسبوع الماضي، أعاد إشعال فتيل الحرب التجارية بإعلانه فرض رسوم جمركية بنسبة 50% على الاتحاد الأوروبي.

وتهديده بفرض تعريفات على هواتف «آيفون» التي تنتجها شركة «أبل». وتزامن اضطراب سوق السندات الأمريكية، مع «مكالمة لطيفة جداً» من رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ليقنع ذلك ترامب بإعلان توقف آخر.

حقيقة الأمر، أن ترامب ليس المذنب الوحيد في أزمة تصاعد الدَّين العام الأمريكي، فمع بلوغه 123% من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يسجل ثاني أعلى مستوياته منذ الحرب العالمية الثانية.

ودأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تعميق العجز منذ موازنة الأمور في ميزانية بيل كلينتون. وباستثناء باراك أوباما الذي حاول التوصل إلى اتفاق كبير مع الجمهوريين، إلا أن كل رئيس تجاهل الأوضاع المالية المتردية للبلاد.

ويأتي كل من جورج دبليو بوش ودونالد ترامب في طليعة أسوأ هؤلاء الرؤساء، وهما اللذان حاولا إجراء تخفيضات ضريبية كبيرة غير مُموّلة. ويحل جو بايدن في المرتبة الثالثة بعدهما، إذ لم يبذل جهوداً حثيثة لزيادة الضرائب لسداد مقابل الإنفاق الأعلى.

ولم تكترث سوق السندات لكل هذا حتى الآن. لكن، ما الذي تغير؟ العامل الأول هو فيروس كورونا، إذ شكّلت الجائحة نهاية لحقبة التضخم المنخفض والأموال السهلة.

وأدت أسعار الفائدة القريبة من الصفر إلى أن تبدو الأمور كأنها بخير. ومهما بلغت إدارة الموازنة من السوء، فإن الإدارات الأمريكية تمكّنت من الرهان بصفة عامة على تخطي النمو لتكاليف الفائدة على الديون.

لكن هذا الأمر تغير الآن. فقد مرر مجلس النواب في الأسبوع الماضي مشروع قانون ترامب «الكبير والجميل» ومن المقرر أن يضيف 3 تريليونات دولار للدين الأمريكي العام خلال العقد المقبل.

وبذلك، ستلتهم تكاليف خدمة الدين حصة متزايدة من الكعكة. كما أن تخفيضات الإنفاق في مشروع القانون قاسية اجتماعياً وغير كافية من الناحية المالية.

أما العامل الثاني، فهو الجانب النفسي لترامب في ولايته الثانية فهو أكثر ميلاً للجموح مقارنة بالفترة الأولى. ولعل ليز تراس، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، التي تسببت سوق السندات في إنهاء فترتها الوجيزة، مثال تحذيري واضح.

فقد اعتبرت سوق السندات الحكومية البريطانية وعود النمو التي بنت عليها تراس تخفيضاتها الضريبة غير الممولة تفكيراً خيالياً. ويمكن أن نرجع الجزء الأعظم من تردد وزيرة الخزانة في حزب العمال، راشيل ريفز، إلى خوفها من أن تلقى مصير تراس نفسه.

وكتبت ليز تراس في مقال نشرته الأسبوع الماضي في صحيفة «واشنطن بوست»، أنها لم تنسَ شيئاً مما حدث. ونصحت ترامب قائلة: «كان ما تعلمته من تجربتي هو القوة المطلقة للمؤسسة الاقتصادية العالمية».

وهناك الكثير من الأطراف الفاعلة التي تحدد أسعار السندات، بما في ذلك المصارف المركزية، وصناديق التقاعد والتأمينات، وصناديق الثروة السيادية غير الغربية، علاوة على ملايين الأفراد.

لذا، تبدو المؤسسة العالمية التي واجهت تراس بعيدة عنى نسج المؤامرات، وأن هدفها ببساطة يكمن في الاستثمار في أصل آمن. لكن شكوكاً شبيهة بتلك التي حاقت بتراس تتسلل إلى سوق سندات الخزانة الأمريكية حالياً.

ويتردد في الوقت الراهن قول لأرنست همنغواي، وهو أن أمريكا تفلس تدريجياً لكن الأمر سيحدث فجأة. لكن هذه المقولة غير صحيحة، إذ لن تتعثر الولايات المتحدة عن سداد ديونها إلا بمحض إرادتها، وليس عنوة بالمرة.

وقد يحدث ذلك إذا رفض الكونغرس رفع سقف الدين الأمريكي في وقت لاحق من العام. لكن هذا الشكل من إلقاء البلاد إلى التهلكة سيكون غريباً حتى بمعايير واشنطن في يومنا الحاضر.

أو ربما يقرر ترامب فرض رسوم على حملة سندات الخزانة الأمريكية الأجانب، ما سيكون بمثابة تخلف عن السداد. وينظر بعض مستشاريه إلى هذا الأمر باعتباره وسيلة لخفض قيمة الدولار لتكون الصادرات الأمريكية أرخص.

ومع ذلك، فحتى ترامب نفسه قد يعارض فكرة إضرار البلاد بنفسها، لأن الإضرار بمقرضي الولايات المتحدة سيكون طريقة فورية لسحق السوق. من ثم، يبدو أن الحرب المتقلبة لترامب على أسس الاقتصاد التقليدية ستشكل مستقبلنا على الأرجح.

ومن الواضح أن الأسواق تنظر إلى نصف الكوب المملوء، فكلما تراجع ترامب عن الهاوية - من خلال إيقاف التعريفات، على سبيل المثال، أو الوعد بعدم إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جاي باول - فإنه يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأسهم مدفوعاً بالارتياح. وقوى السوق الموضوعية، تنحاز إلى التعاطي مع التصرفات المضرة بالنفس أنها سلوك غير طبيعي.

وما عليك سوى العودة إلى هربرت هوفر في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي إذا ما أردت رئيساً أمريكياً كان شديد الاستعداد لخوض معارك ضد الواقع الاقتصادي.

ويعتبر ترامب شبيهاً بسابقيه من الرؤساء الأمريكيين الجمهوريين من ناحية إيمانه بالتخفيضات الضريبية. لكن الجديد هو التشاؤم الذي يتسبب فيه ترامب بشأن مدى الثقة في الديون الأمريكية.

وفي حين تزداد ديون الولايات المتحدة، يطلق ترامب العنان لـ«غرب متوحش» أمام كل من العملات المُشفرة، والذكاء الاصطناعي، وإلى حد ما القطاع المصرفي. وسيكون من المبالغة توقع إزاحة الدولار الأمريكي عن عرشه كعملة الاحتياطي العالمي عما قريب، لكن من المهم أخذ احتمالية وقوع أزمة مالية عالمية على محمل الجد من الناحية الأخرى.