بن بار

كان جوناثان ريد يبني مسيرة مهنية مستقرة في مجال التسويق الرقمي عام 2019، عندما أرسل صديق له رسالة قلبت طموحاته رأساً على عقب. 

كانت الرسالة تحتوي على صورة سبورة كُتب عليها: «صانعو مقصات مطلوبون».

يتذكر ريد، البالغ من العمر 32 عاماً: «أعتقد أنه أرسل لي الصورة على سبيل المزاح. لم يكن يتوقع مني أن أذهب فوراً إلى الورشة وأسأل إن كان بإمكاني أن أصبح صانع مقصات».

وجد ريد نفسه في مقر شركة إرنست رايت، آخر مصنع متبقٍ للمقصات اليدوية في مدينة شيفيلد التاريخية، جنوب يوركشاير، المشهورة بصناعة الفولاذ.

ويعمل ريد الآن بالفعل صانع مقصات، وهو موظف بدوام كامل في واحدة من 165 صناعة حرفية تراثية مهددة بالانقراض في المملكة المتحدة.

وسيرى كثيرون أن ترك ريد وظيفة في قطاع التكنولوجيا، الذي يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه طريق آمن لمهنة واعدة وراتب مرتفع، لتعلم حرفة مهددة، خطوة محفوفة بالمخاطر.

ولكن مع تهديد الذكاء الاصطناعي للوظائف التي بدت آمنة في السابق، تبدو اللمسة الإنسانية للحرف اليدوية، بالنسبة للبعض، وكأنها خيار مهني دائم بشكل غير متوقع.

ويقول ريد: «في الوقت الحالي أشعر بأمان أكبر في وظيفتي».

ويضيف أن بقاء صناعته من خلال التكيف يقدم دروساً محتملة للشركات المعرضة للخطر اليوم.

وقال دانيال كاربنتر، المدير التنفيذي لمؤسسة هيريتيدج كرافتس الخيرية، التي صنفت قائمة المهن المهددة بالانقراض: «يشكل الذكاء الاصطناعي تهديداً كبيراً لجزء كبير من الصناعة الإبداعية، لكن نعتقد أن الحرف اليدوية ربما تكون مرنة جداً في مواجهة ذلك؛ لذا نتطلع إلى الاستفادة من هذه الميزة للترويج للحرف اليدوية بوصفها مهارات للمستقبل».

وكاربنتر ليس الوحيد الذي يشعر بالتفاؤل، حيث من المتوقع أن تتضاعف أسواق الحرف اليدوية العالمية، التي قدرت قيمتها بـ907 مليارات دولار العام الماضي، إلى أكثر من الضعف لتصل إلى 1.94 تريليون دولار بحلول عام 2033، وفقاً للمحللين.

وكشف استطلاع أجراه مجلس الحرف هذا العام أن أكثر من 60 في المئة من المستطلعين كانوا متفائلين بشأن مستقبل القطاع.

كذلك فإن تقييماً حديثاً لمنظمة العمل الدولية حول الضعف المهني أمام الذكاء الاصطناعي، صُنف عمال الحرف من بين الأقل تعرضاً للمخاطر.

وكانت مهن مثل الحدادة ونسج السلال والطباعة البارزة ذات يوم أساسية في سوق العمل، لكنها تراجعت بشكل كبير في بريطانيا خلال القرن العشرين في ظل الأتمتة وانتقال الأعمال إلى الخارج.

وعلى سبيل المثال، فإنه في عام 1891، كان لدى المملكة المتحدة نحو 14000 صانع سلال محترف، لكن هذا الرقم انخفض إلى 5500 بحلول منتصف الثلاثينيات.

ويُعتقد أن الأرقام في الفترة الأخيرة أقرب إلى 200 فقط، ومع ذلك فإن إيدي جلو، صانع السلال من الجيل الثاني ومقره ستافوردشاير، لم يكن قط «أكثر تفاؤلاً» بشأن صناعته مثلما هو الآن.

يقول: «منذ أن دخلت هذا المجال، لم يسلك العمل سوى اتجاه واحد، اتجه نحو الصعود فقط».

وفي حين أن الإنتاج الكمي الضخم قد قلل الطلب على المنتجات المصنوعة يدوياً، إلا أن نوعية المنتجات عالية الجودة والمصممة حسب الطلب لا تزال تحظى بسعر أعلى.

والتركيز على الحرفية يعني تعرضاً أقل للذكاء الاصطناعي مقارنة بالوظائف المعتمدة على الكمبيوتر.

ووجدت دراسة أجرتها «إيتسي»، منصة التجارة الإلكترونية التي بيعت عليها سلع بقيمة 10.9 مليارات دولار العام الماضي، أن 94 في المئة من المشترين على المنصة أعطوا الأولوية لجودة السلع، ورأى 84 في المئة أن السلع المنتجة بكميات كبيرة تكون غالباً أقل جودة.

ويقول جوش سيلفرمان، الرئيس التنفيذي لشركة «إيتسي»: «نرى إشارات واضحة إلى أن المشترين يضعون قيمة عالية على العمل الذي تصوغه الأيدي البشرية، ولذلك أعتقد أن العمل اليدوي سيزداد عليه الطلب وسيحظي بمزيد من الاحتفاء مع انتشار الذكاء الاصطناعي والأتمتة».

ويشير كاربنتر من «هيريتيدج كرافتس» إلى أن الأمر يعود إلى «الشعور بالأصالة.. والقصة الإنسانية وراء الأشياء».

ويدرك الموزعون الطلب على مثل هذه العناصر، ولذلك تسلط علامات تجارية مثل فورم آند مايسون و«ليبرتي» الضوء على الطبيعة الفريدة للمنتجات المصنوعة يدوياً، بينما يمكن للبائعين على أمازون التسجيل تحت تصنيف «هاند ميد» المخصص للمنتجين الحرفيين.

وعلى سبيل المثال، سعت ماريا روزيكينا، وهي شركة لتجليد الكتب في لندن، إلى تحقيق الأمان الوظيفي عبر العملاء الأكثر ثراءً، وهي خبيرة في تشكيل الأغلفة بتصاميم ذهبية معقدة، وتعمل في الغالب مع هواة جمع التحف الخاصة الذين يبحثون عن أكثر من مجرد وظيفة.

وتقول: «يشتري الكثير من عملائي الكتب كونها استثماراً بديلاً، وعبر ما أقدمه أساعد في زيادة قيمة الكتب النادرة».

كما يتكيف الكثير من الحرفيين من خلال اكتساب مهارات معاصرة مثل التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وتنشر شركة «إيرنست رايت» صوراً من ورشة صناعة المقصات على إنستغرام، إلى جانب صور بالأبيض والأسود توضح تاريخها الممتد على مدار 123 عاماً.

كما عزز اتجاه «بوك توك» على «تيك توك» الاهتمام بتجليد الكتب. ويقول كاربنتر: «إن الحرفيين التقليديين الذين يحققون نجاحاً كبيراً في الوقت الحالي هم أولئك الذين يفتحون ورش عملهم للعالم للتعرف على قصتها ومدى أصالتها». ومن مصادر الدخل المربحة الأخرى تعليم الهواة في ورش العمل.

وقد وجد استطلاع أجراه مجلس الحرف في عام 2020 أن أكثر من خُمس الحرفيين عززوا أرباحهم من خلال التدريس بورش العمل أو الدورات التدريبية.

لكن حتى في ظل حالة التفاؤل هذه، توجد تحديات عميقة في القطاع، بدءاً من تزايد المطالب البيروقراطية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الشركات الصغيرة التي تصدر السلع، وصولاً إلى قاعدة العملاء الصغيرة نسبياً.

وتقول روزيكينا: «قبل مئة عام، كان لدي مئات عدة من الزملاء، لأن مهاراتهم كانت تُستخدم على نطاق واسع. أما اليوم، لا أحد يحتاج إلى مئات من التشطيبات الذهبية على أغلفة الكتب.. السوق أصغر بالتأكيد».

لذلك يكافح الكثير من الحرفيين لكسب لقمة العيش. وقد قدر مجلس الحرف أن متوسط دخل الأشخاص الذين يمارسون حرفتهم بدوام كامل يبلغ نحو 33000 جنيه إسترليني سنوياً، ولكن هذا يمثل خمسي من شملهم الاستطلاع فقط، مع اعتماد الكثيرين منهم على دخل إضافي.

وتدير مؤسسة «هيريتدج كرافتس» الخيرية صندوق إعانة للصناع.

ويقول كاربنتر: «تلقينا أكثر من 1200 طلب لذلك في العام الماضي، وهذا يوضح مدى معاناة الناس». وزادت قائمة المؤسسة التي تضم 165 صناعة معرضة للخطر بمقدار 19 صناعة منذ عام 2023.

وبالنسبة لريد، فإن العمل في شيفيلد يعني أن الطبيعة الهشة للصناعة ليست بعيدة عن ذهنه، فقد كانت المدينة في السابق موطناً لما يصل إلى 40000 عامل في صناعة أدوات المائدة، مع نحو 70 شركة لصنع المقصات وحدها.

أما اليوم، فهو يعد واحداً من نحو 20 صانع مقصات متبقين في المملكة المتحدة، ومع ذلك فإن لدى شركة «إيرنست رايت» سجل طلبات حافلاً، وعدداً أكبر من المتدربين في ورشتها يفوق ما كانت عليه منذ سنوات.

وريد متفائل بسبب جودة المقصات، ويقول: «ما تقوم بفعله هو أمر لا يمكن للذكاء الاصطناعي تقليده أبداً، وهذا هو الجانب الإنساني الأصيل في هذا الأمر».