رنا فوروهار
لكي يتسنى لنا فهم مدى صعوبة انتقال الولايات المتحدة من عالم الليبرالية القائمة على مبدأ عدم التدخل إلى آخر تكتسب فيه سيطرة الدولة على الأسواق أهمية أكبر، علينا أن ننظر إلى التنافس بين القوى العظمى الدائر في الأرجنتين حالياً، فمع هبوط قيمة البيزو الأرجنتيني بشكل حاد عقب فضيحة فساد في حكومة خافيير ميلي المتحالفة أيديولوجياً مع إدارة دونالد ترامب، تحاول الولايات المتحدة تنسيق خطة إنقاذ بقيمة 20 مليار دولار للبلاد، التي تأمل أن تظل حليفاً إقليمياً رئيسياً لها.
وأعلنت وزارة الخزانة الأمريكية يوم الخميس الماضي أنها اشترت البيزو الأرجنتيني في محاولة لتعزيز قيمة العملة، فيما تتدخل الصين - التي لديها خط مبادلة خاص بها بقيمة 18 مليار دولار مع الأرجنتين - بشرائها فول الصويا الرخيص من البلاد، مستخدمةً أموالاً كانت تذهب سابقاً إلى المزارعين الأمريكيين، قبل تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وهذه أخبار سيئة سياسياً للبيت الأبيض، حيث تدار الولايات الزراعية في الغالب من قبل الجمهوريين، ويمثل المزارعون دائرة انتخابية سياسية صغيرة لكنها صاخبة في الولايات المتحدة، كما هي الحال في أوروبا.
وتعني حروب ترامب التجارية أن الصين - أكبر مشترٍ عالمي للمنتجات الزراعية الأمريكية - لم تخفض مشترياتها بشكل كبير فحسب، بل تتسبب أيضاً في ارتفاع متواصل لتكلفة أشياء مثل الأسمدة والمعدات، وقد دفع ذلك المزارعين إلى الشكوى من أن ترامب يدعم منافسيهم، في واقع الأمر.
والنتيجة هي أن الإدارة ستضطر على الأرجح للكشف عن دعم جديد للمزارعين الأمريكيين في الأيام المقبلة، ويعتقد الجمهوريون أن الإعانات قد تصل إلى 50 مليار دولار، بعد أكثر من 20 مليار دولار اضطرت الحكومة الأمريكية لدفعها للمزارعين، بعد التأثيرات التي طالتهم بعد الحرب التجارية الأولى لترامب مع الصين في عام 2018.
ومن المحتمل ألا تتم خطة الإنقاذ الأرجنتينية ما لم تسدد حكومة خافيير ميلي الأموال المستحقة عليها في إطار خط المبادلة الصيني أولاً، وقد تكون هذه سياسة أمريكية ذكية، حيث إنها «ستخفض الحجم الفعلي للدعم الأمريكي بمقدار 5 مليارات دولار، وستكون في الوقت نفسه بمثابة عملية إنقاذ لبنك الشعب الصيني»، حسبما أشار الخبير الاقتصادي براد سيتسر على منصة «إكس». إذن، مرحباً بكم في عالم الجيواقتصاد المعقد والمكلف.
ويبدو أن الولايات المتحدة تتبع الآن «مبدأ دونرو»، وهو نسخة ترامبية من قناعة للرئيس جيمس مونرو في القرن التاسع عشر بأن أمريكا يجب أن تبقى بعيدة عن الشؤون العالمية وأن تكتفي بمراقبة حدودها وساحتها الخلفية.
(وتم اشتقاق كلمة «دونرو» من اسم دونالد، بحسب تسمية «نيويورك بوست»، وهي تسمية أعجبت ترامب فأعاد نشرها عبر حسابه على «تروث سوشل»).
وكان ثيودور روزفلت أعاد تأكيد هذا الموقف «مبدأ مونرو»، ثم جون إف كينيدي لاحقاً خلال أزمة الصواريخ الكوبية، قبل أن يحل محله عصر الليبرالية الجديدة.
الآن تتجلى نسخة ترامب من مبدأ مونرو بوضوح تام، حيث أنهت الإدارة «التوجه نحو آسيا» الذي استمر لسنوات عديدة بتفويض جديد يركز على نصفي الكرة الأرضية الغربي والشمالي.
في المقابل تطبق الصين نموذجها الجيواقتصادي الخاص منذ أكثر من عقدين، وقد اعتمدت منظوراً طويل المدى وتركيزاً استراتيجياً أثمر بالفعل، خصوصاً مع نجاحها في الاستحواذ على غالبية المعادن الأرضية النادرة، وقد تم تشديد صادراتها من هذه المعادن وسط المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة، كما تعد هيمنتها على صناعتي بناء السفن والنقل البحري انقلاباً جيواقتصادياً آخر.
ولا تقتصر القوة الصينية على آسيا أو المناطق المحيطة بها، بل هي واضحة تماماً في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، فقد زادت بكين استثماراتها في أمريكا اللاتينية على مدى السنوات القليلة الماضية، وقامت، على سبيل المثال، ببناء أكبر ميناء للمياه العميقة على ساحل المحيط الهادئ في بيرو، بالإضافة إلى الاستثمار في تكرير المعادن الخام في جميع أنحاء المنطقة، كذلك فإن قدرة الصين على تحويل مشتريات فول الصويا من الولايات المتحدة إلى الأرجنتين بسرعة، حسبما أشار خبير سياسات المنافسة، مات ستولر، مؤخراً على موقعه «سابستاك»، «يعد استعراضاً مذهلاً للقوة والانضباط، وهو أمر يصعب على الأمريكيين الإقرار به».
وأظن أن الإدارة الأمريكية تعلم ذلك، ولهذا السبب تركز بشدة على خطة للإنقاذ، إضافة إلى أمور أخرى مثل التحالفات الجديدة في القطاع البحري.
وخلال الأسبوع الماضي، وقعت الولايات المتحدة أخيراً مذكرة تفاهم مع فنلندا لبناء 11 كاسحة جليد جديدة، سيتم بناء أربع منها في فنلندا وسبع في أمريكا، كجزء من جهودها لتعزيز وجودها البحري في القطب الشمالي.
وقال الرئيس الفنلندي ألكسندر ستاب، الذي تحدثت معه بعد توقيع المذكرة: «كان ترامب نفسه هو الدافع الرئيسي وراء ذلك»، وأضاف الرئيس الفنلندي: «القطب الشمالي محوري لترامب اقتصادياً واستراتيجياً».
وستساعد السفن الجديدة التي سيتم بناء أولها بحلول عام 2028 على ترسيخ الوجود الأمريكي في خضم منافسة جيوستراتيجية جديدة في المنطقة.
وفي نهاية سبتمبر اعترضت قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية (القيادة الكندية الأمريكية المسؤولة عن مراقبة المجال الجوي لأمريكا الشمالية) طائرة روسية في المجال الجوي لألاسكا، وهو ما يؤكد الوجود الروسي والصيني المتزايد في القطب الشمالي، مع تكثيف التجارة البحرية والعمليات الأمنية والتنافس على الموارد الطبيعية في المنطقة.
هذا ما يحدث في إطار عقيدة دونرو الاستباقية الترامبية. والحقيقة هي أن الصين وحلفاءها موجودون بالفعل في الفناء الخلفي لأمريكا، وللحفاظ على سلامتها سيتعين على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها ودعمهم.
وكما يظهر لنا من كل شيء، من بناء السفن إلى حروب فول الصويا، لا يمكن لك العمل بمفردك، حتى في عصر تحكمه التجارة.