جون بلندر
تتصدر المخاوف بشأن تباطؤ النمو وضعف الإنتاجية الآن الأجندات السياسية في مختلف أنحاء العالم المتقدم. ومع ذلك، فقد فشلت المناقشات حول ميزانية المملكة المتحدة والانتخابات الرئاسية الأمريكية في التطرق إلى أحد أهم العوامل وراء هذا الوضع، وهو على وجه التحديد السياسة النقدية التي تركز بشكل مفرط على أهداف التضخم على المدى القريب وعدم الاهتمام كثيراً بتطورات أسواق الائتمان والديون.
وكان التبني واسع النطاق لهدف معدل للتضخم بنسبة 2 % بمثابة نعمة ونقمة في الوقت نفسه. وبداية، فإن مزاوجة معدل التضخم بنسبة 2 % باستقرار الأسعار ــ وهو مفهوم غامض ــ أمر مشكوك فيه إلى حد كبير. ويمنع مثل هذا الهدف حدوث تعديل طبيعي نزولي للأسعار بعد زيادات بالإنتاجية أو صدمات إيجابية في العرض. ذلك، أنه إذا لم يُسمح لارتفاعات الأسعار بالنزول إلى أقل من 2 %، فسيكون هناك تحيز متأصل نحو التضخم وضد استقرار الأسعار على المدى الطويل.
وتخبرنا الحكمة الاقتصادية التقليدية بأن السياسة النقدية ليس لها تأثيرات دائمة على الاقتصاد الحقيقي. وهذا ببساطة لا ينسجم مع ما حدث في فترة إلغاء القيود التنظيمية المالية الذي اتسم بفقاعات مالية متكررة وأكبر حجماً تهدد آفاق النمو.
ويشير ويليام وايت، المستشار الاقتصادي السابق في بنك التسويات الدولية، إلى أن الدورات الثلاث الأولى من دورات الفائدة الأربع التي شهدناها منذ أواخر الثمانينيات ــ والتي حدثت في الأعوام 1990، و2001، و2008، و2020 ــ انتهت بأزمات مالية، في حين انتهت الرابعة بسبب جائحة كوفيد 19. وكانت أصول كل أزمة من هذه الأزمات تعود إلى التحفيز النقدي الذي يهدف إلى تعزيز التعافي من ركود سابق، لكن كل أزمة كانت تنتهي بانهيار مالي وركود جديد. ويضيف ويليام وايت إلى أنه على الرغم من زيادة وتيرة وحجم التيسير النقدي على مدار دورات متتالية، إلا أن حالات الركود كانت تتسم بحدة أكبر. ويشير ذلك إلى أن الاستخدام المتكرر للعلاج النقدي للانكماش ربما كان يؤدي إلى تفاقم المشاكل الكامنة.
ومن الملاحظ أيضاً أنه نظراً لأن التيسير النقدي في مرحلة ما بعد الانهيار كان دائماً أكثر حدة من التشديد اللاحق، فقد انخفضت مستويات الذروة والانخفاض في أسعار الفائدة بمرور الوقت، حتى وصلت في نهاية المطاف إلى الصفر أو أقل قليلاً من الصفر. وقد أجبر ذلك البنوك المركزية على اللجوء إلى إجراءات غير تقليدية مثل برامج شراء الأصول المعروفة باسم التيسير الكمي.
ويلفت وايت إلى أن هذا المسار يشير إلى أن التيسير النقدي لم يعد يوفر حتى الدعم المؤقت الذي كان قادراً على تقديمه في الماضي عندما تنفجر الفقاعة التالية وتتسبب في ركود عميق. وتكون النتيجة انكماشية أو حتى تضخمية للغاية إذا تم اتباع التوسع النقدي بغض النظر عن ذلك.
وما نعرفه على وجه اليقين الآن هو أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية بعد الأزمة المالية 2007 ـ 2009 كانت خطيرة بدرجة كبيرة، ما شجع على زيادة هائلة في الاقتراض. ووفقاً لمعهد التمويل الدولي، فقد ارتفع الدين العالمي من 280 % كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2008 إلى ما يقرب من 360 % في عام 2021. ويشير المعهد إلى أن هذا الارتفاع صاحبه تضاؤل بنمو الإنتاجية وانخفاض للناتج المحلي الإجمالي المحتمل في مختلف الاقتصادات الكبرى.
ويضيف التقرير أن هذا الاتجاه يشير إلى أن الاعتماد المستمر على التدخل السيادي للتخفيف من تقلبات الاقتصاد الكلي والتقلبات الاجتماعية والاقتصادية قد يؤدي إلى تفاقم المخاطر ويؤدي إلى سوء تخصيص للموارد نحو المشاريع المنخفضة الإنتاجية وشركات «الزومبي» التي تنتج أرباحاً أقل حتى من تكاليف خدمة الديون.
وتضم قائمة المخاطر أيضاً ميل البنوك المركزية، منذ انهيار سوق الأوراق المالية في عام 1987، إلى وضع شبكات أمان تحت أسعار السوق. وقد انتقلت من كونها مقرض الملاذ الأخير إلى مشتري الملاذ الأخير. وبات التصور العام هو أن البنوك المركزية سوف تهب دائماً للإنقاذ، وهو ما يساعد في تفسير السبب وراء انفصال أسواق الأسهم بنشاطها الكبير عن الاقتصادات التي تعاني من ركود واضح.
وكان للتيسير النقدي المفرط عواقب أخرى غير مقصودة. فقبل وقت طويل من تقديم دونالد ترامب لتعريفاته الجمركية، كانت البنوك المركزية تشجع شكلاً أكثر غموضاً من القومية الاقتصادية. وتشير بريدجيت جرانفيل من جامعة كوين ماري في لندن إلى أنه خلال فترة أسعار الفائدة السلبية، كان منطق استهداف التضخم الذي تبناه البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان سبباً في إخفاء هدف سعر الصرف. وكان الهدف هو إضعاف اليورو والين وتعزيز النشاط من خلال استغلال تعزيز الطلب الأجنبي. وكانت هذه سياسة معادية للمجتمع عندما كان الاقتصاد العالمي في حاجة ماسة إلى طلب محلي أقوى في أوروبا واليابان بدلاً من زيادة الخلل في التوازن التجاري.
وفي الوقت نفسه، أدى البحث عن العائد إلى دفع المدخرات الأوروبية واليابانية إلى الاندفاع إلى الأصول الأمريكية. وتشير جرانفيل إلى أن تأثير تخمة الادخار هذا أدى إلى تكثيف المزيج غير الصحي من أسواق أصول مزدهرة ونمو متوسط أو متواضع. كذلك، فقد أدت الأسواق المزدهرة إلى اتساع كبير لفجوة التفاوت.
الآن، أصبحنا أمام مشكلة ديون مستعصية تمثل عبئاً كبيراً على الاستهلاك والاستثمار. وبات العالم معرضاً لخطر عدم الاستقرار المالي الشديد كلما رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة. لذلك، هناك حاجة ماسة إلى مناقشة مستفيضة حول إهمال السياسة النقدية لتطورات الائتمان والديون. ولن يتم تنفيذ أجندات النمو التي يضعها الساسة على النحو اللائق أبداً ما لم نجد طريقاً للهروب من توطن الفقاعات والكساد ودورة الديون المتضخمة.
