كاتي مارتن
ينتشر شعور متزايد بالخوف في الأسواق، خصوصاً في ظل تناقص عدد المستثمرين والمحللين الراغبين في الحديث علناً عن المخاطر المدمرة الكامنة في برنامج دونالد ترامب للسياسة الاقتصادية، ويبدو هذا التحول خفياً، لكن الاقتصاديين والمشاركين في السوق غالباً ما يتفقون سراً على أنهم رصدوا مؤشرات متفرقة لرقابة ذاتية متزايدة، حيث اتجهت لغة المحللين في تصريحاتهم العلنية نحو الحياد.
وأصبحت التعريفات الجمركية، التي وصفوها بـ«العدوانية» في بداية العام «ضخمة» بكل بساطة، وتفتقر السياسة المالية والاقتصادية الأمريكية الآن إلى «القدرة على التنبؤ»، وليس إلى «المصداقية». تحول النقد اللاذع للجهود «المتهورة» لإقالة كبار المسؤولين من البنك المركزي للبلاد إلى نقاش فاتر حول الإجراءات المتبعة حالياً، لكن التغيير الأكبر يكمن في ما لا يتم الحديث عنه، على الأقل في العلن.
يقول بعض المشاركين الأكثر نشاطاً في السوق إنهم تلقوا «تربيتة على أكتافهم» من رؤسائهم الذين طلبوا منهم تخفيف حدة انتقاداتهم لتصرفات الإدارة، كما أن بعض التحليلات المكتوبة تُرمى جانباً قبل أن ترى النور. ويقول الجميع، إن الدافع وراء ذلك هو «الخوف من انتقام الرئيس»، وقال أحد مديري الصناديق المخضرمين، والذي لن أذكر اسمه هنا لأسباب واضحة: «لم أرَ شيئاً كهذا من قبل. ما يحدث هو أنك لا تحصل على أبحاث وتحليلات صادقة»، ودائماً ما يسلك المحللون في البنوك وشركات الاستثمار مساراً دقيقاً بين إعطاء العملاء رؤية صريحة للسياسة الاقتصادية، وهو ما يرغبون فيه، واختيار جانب سياسي ما، وهو ما يرغبون في تجنبه.
ويتجاوز ذلك التعبيرات الملطفة المعتادة، وقد اشتد هذا التوجه منذ الصيف، بعدما دعا ترامب جولدمان ساكس إلى إقالة كبير اقتصادييها، الذي كتب مذكرة «متزنة» حول التعريفات التجارية أثارت غضبه. وقال: إن الرئيس التنفيذي للبنك ديفيد سولومون «يجب أن يخرج ويحصل على خبير اقتصادي جديد أو ربما يجب أن يركز فقط على أن يكون «دي جي»، ولا يكلف نفسه عناء إدارة مؤسسة مالية كبرى»، في إشارة إلى هواية سولومون الشهيرة.
ورغم أنه لم يتم فصل أحد بعد هذا الهجوم الغاضب من ترامب إلا أن الرسالة إلى المحللين العاديين في جميع أنحاء وول ستريت كانت واضحة: «التزموا باستخدام أكثر لهجة محايدة ممكنة لوصف ما يعرفه كل مدير أموال تقريباً بأنه هجوم مروع على الأسس المؤسسية لأهم اقتصاد وسوق في العالم»، لكن في السر، غالباً ما يكون هؤلاء المحللون لاذعين بشأن مساعدي ترامب الماليين «باستثناء نادر يتعلق بوزير الخزانة سكوت بيسنت»، إلى جانب الهجوم الشديد على السلوك المتذلل للشركات، والتهديدات المتواصلة لاستقلال مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وتقويض مكتب إحصاءات العمل، والسياسة التجارية الفوضوية - كل ذلك وأكثر.
أما في العلن فهم محايدون وحذرون للغاية. وقال أحد المستثمرين: «لقد رأينا جميعاً ما حدث لجولدمان ساكس. لا أحد يريد أن يكون التالي»، لكن تبرز هنا بعض الحالات الاستثنائية، خصوصاً من أولئك الذين يتمتعون بمكانة تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم، بمن فيهم راي داليو من «بريدج ووتر» وجيمي ديمون من «جيه بي مورغان»، كما كانت رئيسة الاحتياطي الفيدرالي السابقة جانيت يلين صريحة ومباشرة في دفاعها عن استقلال الاحتياطي الفيدرالي. وعموماً وعلى النطاق الأوسع فإن المصرفيين والمستثمرين باتوا أكثر حيطة.
وإذا أردنا أن نكون إيجابيين، فربما يكون هذا أمراً جيداً، ففي النهاية الأسهم صامدة بشكل جيد بل أفضل من «جيد»، ما يشير إلى أن هذا التحول في النظام السياسي في الولايات المتحدة ظل ولو على المدى القصير، أقل أهمية بالنسبة للمحافظ الاستثمارية مما توقعه الليبراليون المتشبثون بالثروات، ومع ذلك، من المهم أن نتذكر حالات مشابهة سابقة، ففي أزمة ديون منطقة اليورو، اتهمت السلطات الإيطالية مسؤولين تنفيذيين من وكالتي فيتش وستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني بالتلاعب بالسوق لخفض تصنيف الدين الحكومي للبلاد. في ذلك الوقت لم يعتبر المستثمرون هذا الأمر دليلاً على أن الدولة لا تأخذ استدامة ديونها على محمل الجد.
ولحسن الحظ يتمتع المستثمرون المحترفون عموماً بالقدرة على التفكير باستقلالية، كما ينبغي على من عايشوا عالم المال لفترات طويلة أن يعتمدوا على التلميحات والإيماءات والعلاقات الراسخة مع المحللين لتقييم بيئة صنع السياسات بكل جوانبها. ويؤمن بعض المحللين ومديري الأموال إيماناً راسخاً بإمكانية استمرار ارتفاع الأسهم الأمريكية، معتبرين أنه مثلما استطاعت الشركات الأمريكية التعامل مع الإغلاق التام للتجارة العالمية في ظل جائحة «كوفيد» فإنها تستطيع تحمل بعض الدراما السياسية هنا وهناك، وأن تتحمل كذلك ارتفاعاً طفيفاً في تكاليف الاستيراد.
في المقابل فإن أي شخص يكسب عيشه من العمل في خبايا الرأسمالية يدرك تماماً أن تدخل الدولة في السياسة النقدية وحياة الشركات، وتدهور البيانات الاقتصادية الرسمية، كل ذلك يضر مع مرور الوقت بنتائج أي مستثمر، لهذا السبب ظل كثيرون يعتمدون بشدة على الولايات المتحدة، لتاريخها الطويل من المرونة المؤسسية، وإيمانها الراسخ بالرأسمالية الكاملة، في المقام الأول. ومثل هذا الشعور بالخطر في الأوساط المالية هو أحد الأدلة العديدة على أنه مهما كان سوق الأسهم لامعاً؛ فإن ذلك لا يعني أن كل شيء على ما يرام.
