تيج باريخ

في أواخر أغسطس، قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زيادة رسومه الجمركية المرتفعة أصلاً على الهند، لتصل إلى 50 %، عقاباً لها على مشترياتها من النفط الروسي. ولذلك، أصبحت الهند من أكثر دول العالم تأثراً بالرسوم الجمركية الأمريكية. وبما أن أمريكا تُعدّ أكبر سوق تصدير للمنتجات الهندية، عبّر الكثيرون عن خشيتهم من تداعيات شديدة السوء على مستقبل البلاد الاقتصادي.

مع ذلك، فإن لدى الهند العديد من المقومات التي تشير إلى قدرة أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان على تحمّل ضغوط الرسوم الجمركية للرئيس الأمريكي، بل ويُمكنها حتى أن تزدهر حال أحسنت التعامل مع هذه الرسوم:

أولاً، الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة على الهند ليست بالسوء الذي تبدو عليه، فرغم أن خُمس صادرات البلاد من السلع تذهب إلى الولايات المتحدة، إلا أن الهند ليست من كبار مُنتج أي من السلع عموماً.

وفي الواقع، تشير تقديرات «كابيتال إيكونوميكس» إلى أن الطلب على السلع الأمريكية يُشكّل 2 % فقط من الناتج المحلي الإجمالي للهند.

كذلك، فقد تم استثناء 30 في المئة من صادرات السلع الهندية إلى أمريكا من تعريفات ترامب، بما في ذلك القطاعات الرئيسة، مثل الإلكترونيات الاستهلاكية والأدوية، وذلك وفقاً لتحليل فاينانشال تايمز. وهذا يعني أن معدل التعريفة الجمركية الفعلي للولايات المتحدة على السلع الهندية، يقع في واقع الأمر ضمن نطاق أقل إثارة للقلق قليلاً، لكنه لا يزال مرتفعاً، إذ يتراوح بين 33 و36 في المئة، وبذلك يأتي خلف الصين والبرازيل مباشرة.

ورغم ذلك، تشير تقديرات الاقتصاديين إلى أن الرسوم الجمركية ستؤثر بشكل كبير في معدل النمو السنوي للهند بنسبة تتراوح بين 0.6 و0.8 نقطة مئوية. (أو معدل متوقع منقح يتراوح بين 6 و7 في المئة، ليظل أسرع اقتصاد رئيس نمواً في العالم).

وكما ذكرت فاينانشال تايمز الأسبوع الماضي، فإن بعض الصناعات الأكثر تضرراً - مثل المنسوجات والأحجار الكريمة والمجوهرات والسجاد – تندرج ضمن أكبر القطاعات عمالة في الهند، لكن يمكن للبلاد التوسع في أسواق أخرى، إلى جانب اتخاذ حزمة من الإجراء التخفيفية.

ويتجاهل التركيز السلبي على كون الولايات المتحدة أكبر وجهة تصدير فردية للهند، أن الهند أرسلت إلى دول الاتحاد الأوروبي ككتلة سلعاً تتجاوز ما تم إرساله إلى أمريكا خلال العام الماضي. كما أن الهند، بالمعايير الدولية، تتمتع بعلاقات تجارية متنوعة، وهو ما ينعكس في انخفاض درجة تركيز أسواق التصدير لديها.

وقد عجّل رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، المفاوضات مع شركاء دوليين آخرين، منذ أن فرض ترامب رسومه العقابية. وبعد محادثات جرت في وقت سابق من هذا الشهر الجاري، يبدو أن الهند والاتحاد الأوروبي في طريقهما للوفاء بالموعد النهائي المحدد بنهاية العام الجاري، لإبرام اتفاقية تجارة حرة. كما عمل مودي خلال الأسابيع الأخيرة على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الصين واليابان.

وتقول سونال فارما كبيرة الاقتصاديين في بنك نومورا: «تنويع الصادرات استراتيجية جيدة على المدى المتوسط. وتسريع المفاوضات التجارية، يعني أن الشركات ستتمكن من إعادة تركيز سلاسل التوريد على أوروبا ودول الخليج العربية وأمريكا اللاتينية، وعلى أسواق أقرب في جميع أنحاء آسيا».

وتضيف: «على المدى القريب، سيخفض المصدرون أيضاً أسعارهم، في محاولة للحفاظ على حصتهم بالسوق الأمريكية. وقد تقدم أيضاً حزمة الدعم المُعلنة للشركات المتضررة قدراً من المساعدة».

ثانياً، أن قوة الهند في قطاع الخدمات ذات القيمة المضافة العالية، تمكنها من الاستفادة من اتجاهات النمو طويلة الأمد، التي يمكنها الصمود بدرجة أكبر في وجه رسوم ترامب الجمركية، بل وقد تتجاوزها تماماً.

وعلى مدى العقدين الماضيين، تحولت الهند من مجرد استضافة المكاتب الخلفية الإدارية للشركات متعددة الجنسيات، إلى «مراكز للقدرات العالمية»، حيث تُجرى أنشطة أكثر ربحية، بما في ذلك البحث والتطوير، وتحليل البيانات، والترميز. وتتساوى حصة الهند من صادرات خدمات الأعمال وتكنولوجيا المعلومات العالمية الآن، مع حصة المملكة المتحدة، بل وتقترب من حصة الولايات المتحدة.

ومن المتوقع أن يرتفع عدد مكاتب القدرات العالمية بنحو 700 مكتب، ليصل الرقم الإجمالي إلى 2400 بحلول عام 2030. وتتوقع شركة «دن آند برادستريت» أن تتضاعف المساهمة المباشرة لهذه المكاتب في الإنتاج، إلى 143 مليار دولار خلال هذه الفترة.

وتقدر «ناسكوم»، وهي جمعية تجارية، أن إيرادات صناعة التكنولوجيا قد تتضاعف إلى أكثر من 500 مليار دولار بحلول عام 2030. وقد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى أتمتة بعض الأنشطة، لكن المجموعة الكبيرة من مهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في الهند، وتحول البلاد إلى سلسلة القيمة، يعني أنها ستكون على الأرجح مستفيداً صافياً من التكنولوجيا.

ويقول روهيت جويل رئيس أبحاث الاقتصاد الكلي العالمي في «بريك أوت كابيتال»، يجب أن تبدي الشركات العالمية حرصاً أكبر على الاستفادة من انخفاض تكاليف التوظيف والمواهب والخبرة في الهند، لدعم نشر الذكاء الاصطناعي الخاص بها.

ولدى الهند، على سبيل المثال، ثاني أكبر عدد من المطورين في العالم على منصة البرمجة «جيت هب». كما نما نشاط براءات الاختراع، بما في ذلك في مجال الذكاء الاصطناعي، بسرعة أيضاً، وذلك وفقاً لتحليل أجرته «بي سي إيه ريسيرش». وإن وجود عدد كبير من مستخدمي الإنترنت، والانفتاح الكبير على شركات التكنولوجيا الأجنبية، يجعل البلاد مثالية لاختبار النماذج، وتوسيع نطاق المنتجات وتبنيها.

وتقدر شركة «إي واي» أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يضيف ما يصل إلى 1.5 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي للهند، بحلول عام 2030. وبالمقارنة، فإن الحكومة الهندية تقدر أن تعريفات ترامب ستؤثر إجمالاً في صادرات بقيمة 48.2 مليار دولار.

ثالثاً، يمكن للسوق المحلية الكبيرة في الهند، أن تساعد في تحمل الكثير من تأثيرات الضربة المباشرة الناجمة عن التعريفات الجمركية. وعلى الرغم من أن «الطبقة الاستهلاكية» في الهند تقدر بنحو 10 % من سكانها، حسب تصنيف شركة رأس المال الاستثماري «بلوم فينتشرز»، إلا أن هذا لا يزال يعني ما لا يقل عن 140 مليون شخص.

وتصنف الشركة 300 مليون آخرين على أنهم «مستهلكون ناشئون». ومع انخفاض التضخم، أصبحت هذه القاعدة الكبيرة من المستهلكين أكثر ثقة. ويشير تانفي جوبتا جين كبير الاقتصاديين في «يو بي إس سيكيورتيز إنديا»، إلى أن اتخاذ عدد من تدابير السياسات، يمكن أن يساعد في «دعم استهلاك الأسر». وقد تعهد مودي بالفعل بتخفيضات، مع تبسيط ضريبة السلع والخدمات.

ومن المتوقع أيضاً أن يُقدم بنك الاحتياطي الهندي على تخفيضات مبكرة لأسعار الفائدة، لتقليص الضرر الاقتصادي الناجم عن الرسوم الجمركية. ويقول جوبتا جين: «قد تُعوّض مختلف التدابير الحكومية والنقدية، إلى حد كبير، مخاطر التراجع الاقتصادي في الأرباع القادمة. لكن يتوقع أن يتضاءل الدعم إذا استمرت الرسوم الجمركية المرتفعة».

وأخيراً، يمكن أن تدفع رسوم ترامب الجمركية الهند نحو إصلاحات هيكلية أعمق. ويقول روهيت جول من بريك أوت كابيتال: «هذا النوع من الصدمات الخارجية، يُمكن أن يُحفز الناس والسياسيين على إجراء تحسينات اقتصادية طويلة الأجل».

وفي الواقع، كانت أزمة ميزان المدفوعات في الهند، أدت إلى إطلاق جهود تحرير اقتصادي كبيرة في أوائل التسعينيات. واليوم، من المُرجح أن يتطلب إبرام صفقات تجارية مُجدية من الهند، خفض حواجزها الجمركية. وسيكون لذلك فائدة إضافية، تتمثل في فتح أبواب الصناعات «المُدللة» أمام المنافسة.

وتضعف عقبات التجارة الداخلية - بما في ذلك ارتفاع تكاليف الخدمات اللوجستية، وكثرة اللوائح التنظيمية المُرهِقة - القدرة التنافسية للصادرات الهندية (حتى قبل فرض أي رسوم خارجية). كما أنها تُعيق التوسع. وسيكون لتبسيط لوائح سوق العمل، وتحسين الوصول إلى الأراضي، وتخفيف عبء الامتثال على الشركات، والاستثمار في مبادرات تحسين المهارات أثر كبير.

ويمكن لتشجيع المنافسة بين ولايات الهند المختلفة، أن يُوفر الزخم اللازم. إن هذه الإجراءات مجتمعةً، ستعزز إمكانات النمو في الهند بدرجة أكبر بكثير مما ستُضعفه رسوم ترامب الجمركية. وقد يُوسّع الرئيس الأمريكي نطاق تهديداته، ليشمل قطاع الخدمات في الهند.

ولكن بما أن شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى تستفيد من مراكز القدرات العالمية، والوصول المفتوح إلى السوق الرقمية الهندية الشاسعة، فقد لا يُقدم ترامب على هذه الخطوة. ورغم أن ترامب قد يُضيف المزيد من الرسوم الجمركية على السلع، فقد تم إحراز بعض التقدم في المفاوضات بين البلدين خلال الأيام الأخيرة.

وفي كل الحالات، تأتي الرسوم الأمريكية، كجرس إنذار للبلاد. وحتى لو خفّض ترامب رسومه الجمركية، فستظل الهند تواجه رسوماً جمركية «متبادلة» مرتفعة. وستبقى الدوافع لتحسين العلاقات مع شركاء تجاريين آخرين، وسنّ الإصلاحات قائمة طوال فترة رئاسة ترامب المتقلبة. وستكون هناك ثمار لتنويع التجارة، حتى إذا قررت إدارة أمريكية مستقبلية إلغاء الحواجز الجمركية.