ستيفن بوش
على امتداد أنحاء العالم الغني تواجه كل دوله تقريباً نفس المشكلة: يعيش السكان حياة أطول، وينجبون أطفالاً أقل، وفي كل عام يبلغ عشرات الآلاف سن التقاعد أو يتقاعدون، لكن قليلين ينجبون عدداً كافياً من الأطفال، للحفاظ على نسبة إعالة الرعاية عند مستوى يوفر مستوى الخدمات العامة، ومستويات الضرائب، التي اعتاد عليها الناخبون المعاصرون.
الحل كان هو الهجرة التي سدت بها الدول هذه الفجوة، وفي المملكة المتحدة سمح الطلاب الأجانب للجامعات بالبقاء مفتوحة، وملأت الهجرة الشواغر في قطاعي الرعاية والبناء في البلاد، وكلاهما شهد نمواً ملحوظاً في عهد بوريس جونسون، وهكذا فمعظم الدول الغنية لديها الآن مهاجرون أكثر من أي وقت مضى، وحتى ديفيد بول، رئيس حزب الإصلاح الشعبوي اليميني في المملكة المتحدة، وصف الهجرة بأنها «شريان الحياة» للبلاد،
لكن لدى السياسيين مشكلة، فالهجرة موضع معارضة سياسية شرسة، فإلى جانب التضخم في الولايات المتحدة كان الغضب من فشل الديمقراطيين في السيطرة على الحدود الجنوبية مع المكسيك سبباً رئيسياً لعودة دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة.
وفي المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا يتصدر حزب من اليمين القومي استطلاعات الرأي، ويرجع ذلك جزئياً إلى معارضة الهجرة، وليست كل معارضة للهجرة نابعة من التحيز، فقلة قليلة هي التي تتفاعل بشكل جيد مع التغيير المفاجئ، وهذا جزئياً سبب كون معارضة الهجرة تميل إلى أن تكون في ذروتها، ليس في الأماكن، التي تشهد هجرة كثيفة، بل حيثما كان هناك زيادة مفاجئة في معدل التغيير.
ولعل لندن تعد مثالاً ممتازاً لذلك، فقد كانت معارضة الهجرة أعلى بكثير في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، رغم أن العاصمة البريطانية كانت تعاني من انخفاض كبير في أعداد المهاجرين مقارنة بما هي عليه اليوم، لكن الآن لا يتوقع سوى عدد قليل من سكان لندن أي شيء آخر غير العيش في مدينة متنوعة، ومتعددة الأعراق، وبالتالي فإن التغييرات في نطاق الهجرة أقل إثارة للجدل السياسي مما كانت عليه من قبل.
وإلى جانب الفوائد المجتمعية للهجرة فهي تُنتج بعض الخاسرين: فالهجرة التي تسد الثغرات في سوق العمل، وتحافظ على انخفاض التضخم تُفيد الجميع تقريباً، لكنها، حتماً، تسبب ضغوطاً هبوطية على الأجور في أسفل توزيع الدخل، من عمال الخدمات الصحية الوطنية إلى عمال التوصيل.
إلى جانب ذلك فإن بعض معارضة الهجرة مبنية ببساطة على التحيز المحض، والعداء للتنوع العرقي. وقد استمد السياسيون من اليسار ويسار الوسط آمالاً كبيرة من الأبحاث التي تظهر أن المعارضة للهجرة هي الأعلى في المناطق التي تشعر بأنها «متداعية». ولكن الدراسة نفسها تظهر أن أحد الأشياء التي يراها الناس كونها علامة على أن المنطقة في طريقها إلى الانهيار هو وصول المهاجرين.
ولطالما شهد تاريخ الهجرة في العالم الحديث دورات من الانفتاح والانغلاق، فعندما وصل أجدادي إلى المملكة المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر قادمين مما كان يُعرف آنذاك بالإمبراطورية الروسية، لم تكن جوازات السفر متاحة، بل كانت تكلفة السفر هي ما يفصل الناس عن العيش حيث يشاؤون.
ودفعت معارضة السكان الراسخين لوصول المهاجرين الحكومات إلى إصدار أول جوازات سفر حديثة، ومنذ ذلك الحين شهد تاريخ سياسة الهجرة البريطانية، بل وتاريخ معظم دول العالم الأخرى، ازدياداً وهبوطاً مع المد السياسي.
الفرق الآن هو أن قدرة المجتمعات التي تتقدم في السن بسرعة على مواكبة فترات الوفرة والفقر في سياسات الهجرة تواجه قيوداً أكبر من الماضي، تحديداً بسبب كبر سنها، وازدياد حاجتها إلى عمالة إضافية. في الوقت نفسه تؤدي الهجرات غير النظامية إلى معارضة لجميع أشكال الهجرة.
أصبحت الدول الحدودية، مثل إيطاليا، أو المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، أكثر اهتماماً بالمعابر البحرية، سواء عبر البحر الأبيض المتوسط أو القناة الإنجليزية.
تُخاطر الدول بالوقوع في دوامة مُدمرة، حيث تُؤدي القيود المفروضة على الهجرة إلى زيادة الأعباء على ميزانية السكان الأصليين، وتدهور مستمر في الخدمات، ما يُعمق بدوره معارضة الهجرة، وبالتالي يُولد ضغوطاً أكبر، وهكذا دواليك، لكن هل يُمكن كسر هذه الدوامة المُدمرة؟ ستتمكن الدول المختلفة والجمهور الناخب بمطالبه المختلفة من اتباع مناهج مختلفة، وعلى سبيل المثال فإن اليابان شهدت لعقود معدلات هجرة أقل بكثير من الدول الغنية الأخرى، وهو أمر تحقق لأن المتقاعدين في اليابان يحصلون على دخل أقل من نظرائهم في الدول الأخرى.
وفي المملكة المتحدة، حيث ثار الناخبون المُسنّون في البلاد، وهم الفئة الأكثر معارضة لمستويات الهجرة المرتفعة، مرتين على فكرة أن يقتصر بدل وقود الشتاء على أفقر المُتقاعدين، لا يوجد مسار موثوق لمقايضة انخفاض مستويات المعيشة بانخفاض معدلات الهجرة.
وبالنسبة ليسار الوسط يُشار إلى دولة واحدة بشكل متزايد كونها مثالاً على كيفية القيام بذلك: الدنمارك، حيث تحوّل الديمقراطيون الاجتماعيون بشكل حاد نحو اليمين في مسألة الهجرة، واحتفظوا بالسلطة نتيجة لذلك، لكن هناك العديد من الأسباب التي تجعل «افعل ما فعلته الدنمارك» خياراً غير وارد في معظم الدول الأخرى، فالدنمارك ليست دولة حدودية: ولا تصل أي من حركات الهجرة العالمية إلى الدنمارك أولاً، ومن الأسهل على البلاد إغلاق أبوابها.
وبالنسبة لحزب العمال البريطاني، الذي يحكم دولة على حدود الاتحاد الأوروبي، فإن خسارة الناخبين لصالح أحزاب اليسار الأخرى، مثل حزب الخضر، أو الوسط، مثل الديمقراطيين الليبراليين، لا تمثل انتقالاً غير مؤلم للدعم عبر الكتلة، بل خسارة مدمرة لدعم تشتد الحاجة إليه.
وبالنسبة ليمين الوسط يُنظر إلى دولتين كونهما مثالين يحتذى بهما: أستراليا وإيطاليا، فقد نجحت الحكومات التي تقودها الأحزاب الليبرالية في أستراليا في «إيقاف قوارب المهاجرين»، لكنها استفادت من الموقع الجغرافي والظروف الجيوسياسية المواتية.
ويعتمد إيقاف القوارب جزئياً على القدرة على إسناد المشكلة إلى بابوا غينيا الجديدة، وجزيرة ناورو في المحيط الهادئ، وقد فعلت ديمقراطيات أوروبا هذا بالفعل، إلى حد ما، من خلال إسناد بعض إدارة حدودها إلى تركيا وليبيا.
وقد تقدم إيطاليا نموذجاً لتوازن أكثر استقراراً، فقد حافظت رئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني، على ارتفاع معدلات الهجرة، لكنها تمكنت من الحفاظ على الدعم السياسي، وتصدر استطلاعات الرأي من خلال الحد بشكل حاد من مسارات الحصول على الجنسية، مثلها مثل الدنمارك، فيما يتعلق بلم شمل الأسر.
وقد استطاعت تحقيق ذلك جزئياً، لأن حزبها يحظى بالثقة بمسألة الهجرة، تماماً كما كان الحال مع يسار الوسط عندما بدأت ميت فريدريكسن، رئيسة الوزراء الدنماركية، في توجيه حزبها نحو اليمين في هذه القضية، لكن معظم أحزاب يسار الوسط الأوروبية، سواء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أو حزب العمال البريطاني، أصبحت الآن غير موثوقة في موضوع الهجرة، لدرجة أن أي اتفاق لاستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين بتأشيرات محدودة قد لا يكون خياراً، يمكنهم إقناع ناخبيهم بقبوله.
وليس كل خيار يحظى بقبول واسع نظرياً هو أمر يرحب به الناس عملياً، ففي المملكة المتحدة، وخلال عهد توني بلير، طرح حزب العمال الجديد نهجاً مشابهاً لنهج ميلوني القائل بـ«هجرة عالية، مع إجراءات ذات قسوة شديدة»: ارتفعت معدلات الهجرة، لكن طالبي اللجوء واجهوا قيوداً جديدة على قدرتهم على العمل أثناء معالجة طلباتهم، ونتيجة لذلك يقضي طالبو اللجوء، في الوقت الحاضر، وقتهم في انتظار طلباتهم محصورين في مساكن مؤقتة من نوع أو آخر، ويتلقون دعماً حكومياً.
على الجانب الآخر تقدم المملكة المتحدة نموذجاً ناجحاً في مجال الاندماج، عبر مجموعة من المعايير، وهناك جوانب لا تُحقق فيها المملكة المتحدة نجاحاً كبيراً، لكن نجاح التكامل على المدى الطويل يتحقق في سوق العمل.
إن ما يتعين على الحكومات فعله هو أن تكون واضحة وصادقة بشأن خياراتها، وأن تكون كل سياسة هجرة مصحوبة بمقايضات، سواء من حيث التكامل، أو نتائج سوق العمل، أو كيفية تغير المناطق بفعل الهجرة، والناس عموماً بحاجة إلى أن يكونوا مستعدين وقادرين على الدفاع عن خيارات يمكن تطبيقها في العالم الحقيقي ــ وليس التراجع إلى الأوهام بأن المجتمعات المتقدمة في السن قادرة على حماية ازدهارها من دون الهجرة، أو أن أي شكل من أشكال سياسة الهجرة يمكن أن يصبح خالياً من التكلفة أو الاحتكاكات.
