بروك ماسترز

يشهد حليب البقر عودة قوية إلى الأسواق، بعد عقدين من التحديات المتتالية، فقد واجه هذا المنتج التقليدي هجوماً مكثفاً من قبل نشطاء البيئة، وجماعات حقوق الحيوان، بالإضافة إلى تحذيرات خبراء التغذية بشأن محتواه من الدهون، ما أدى إلى انخفاض استهلاك الأمريكيين للحليب البقري بنسبة 50 %، مقارنة بمستويات السبعينيات.

في المقابل، نجحت البدائل النباتية في اقتحام السوق بقوة، حيث بدأت بحليب الصويا، تلته منتجات اللوز والشوفان، التي احتلت مكانة بارزة في قوائم وأرفف المتاجر الكبرى، وكما تشير الإحصاءات، فإن منتجات الحليب النباتي تشكل حالياً أكثر من 12 % من إجمالي مبيعات الحليب المبرد في الأسواق الأمريكية.

لكن تشير التحليلات الأخيرة إلى أن صناعة الألبان الأمريكية بدأت تستعيد عافيتها بقوة، حيث سجّلت مبيعات الحليب التقليدي ارتفاعاً بنسبة 3.5 % بالقيمة الدولارية، خلال العام المنتهي في مايو، طبقاً لمؤسسة نيلسن آي كيو للأبحاث، في حين حقق عام 2024 إنجازاً تاريخياً، بتسجيله أول نمو فعلي في الاستهلاك الأمريكي للحليب البقري منذ خمسة عشر عاماً.

في المقابل، تراجعت منتجات الحليب النباتي بواقع 8.4 % على مدار عامين، فيما انهارت القيمة السوقية لشركة أوتلي الرائدة في إنتاج حليب الشوفان بنسبة كارثية، بلغت 98 % من ذروتها التاريخية في 2021.

وقال آلان بيرغا، الناطق باسم الاتحاد الوطني لمنتجي الحليب: «الحليب يكسب المعركة التجارية بكل جدارة، وهناك ما يشير إلى إمكانية استمرار هذا الزخم»، لافتاً إلى ظاهرة مماثلة في أسواق اللحوم، التي تشهد قفزات نمو بمعدلات من خانتين للمنتجات الحيوانية، مقابل هبوط حاد لبدائلها النباتية.

ويقدم التحول في مسار صناعة الحليب دروساً بليغة للقطاعات التقليدية في مواجهة التحديات العصرية، فبعد استنزاف طاقاتها في معارك خاسرة، لحرمان المنافسين من استخدام تسمية «حليب»، اختارت صناعة الألبان إعادة ابتكار نفسها، بضخ استثمارات هائلة تتجاوز 10 مليارات دولار في منشآت المعالجة، خلال الفترة من 2023 إلى 2027، بهدف تطوير منتجات تلامس تطلعات المستهلكين المتغيرة.

وإزاء الضغوط المتصاعدة حول قضايا الرفق بالحيوان والبصمة الكربونية، تبنّت الصناعة استراتيجية استباقية، عبر التعهد بتحقيق الحياد الكربوني الكامل، وإطلاق خطوط إنتاج عضوية، ومنتجات من مزارع تطبق أعلى معايير الرعاية الإنسانية، مستفيدة في الوقت ذاته من تنامي الشكوك حول جدوى الحلول البيئية المتطرفة، وما يُعرف بظاهرة «الإجهاد البيئي» لدى شرائح واسعة من المستهلكين.

كما برعت صناعة الألبان في استثمار التحولات الجذرية في مفاهيم التغذية الصحية، فبينما عصفت بها قبل عقدين حملات شرسة ضد المحتوى الدهني - خاصة بعد صدور مؤلفات مثيرة للجدل، تحوّل التركيز اليوم نحو البحث عن البروتينات الطبيعية، والابتعاد عن المنتجات فائقة المعالجة، إضافة إلى تزايد الطلب على الكالسيوم وفيتامين «د»، من قبل الشرائح العمرية الأكبر.

كل هذه العوامل تصب في صالح قطاع الألبان التقليدي، ففي الوقت الذي تعاني فيه المشروبات النباتية من ضعف محتواها البروتيني، واعتمادها المفرط على المُحليات الصناعية والمستحلبات ومواد التثبيت، يتفوق الحليب الطبيعي بمحتواه الغني من الكالسيوم الطبيعي، إضافة إلى تدعيمه بفيتامين «د» منذ عقود طويلة.

ويؤكد جون كروفورد الخبير المتخصص في منتجات الألبان بشركة «سيركانا» لأبحاث السوق، هذا التفوق قائلاً: «يتميز حليب الأبقار بقائمة مكونات نظيفة للغاية، في حين تُعد تركيبة الحليب النباتي أكثر تعقيداً»، ما يعكس عودة المستهلكين إلى القناعة التي روّجتها الإعلانات الأمريكية التاريخية بأن الحليب «مفيد للجسم فعلاً».

ونجحت صناعة الألبان في معالجة إحدى أبرز تحدياتها التاريخية، وهي عدم قدرة شريحة واسعة من الأمريكيين - خاصة من ذوي الأصول الآسيوية واللاتينية - على هضم اللاكتوز، ما كان يسبب لهم اضطرابات صحية عند تناول منتجات الألبان التقليدية.

وقد استطاع منتجو الألبان استقطاب هذه الفئة، عبر طرح تشكيلة متنوعة من المنتجات الخالية من اللاكتوز أو منخفضة المحتوى، التي تحتفظ بالقيمة البروتينية العالية، مع إضافة إنزيمات خاصة لتحليل اللاكتوز، محققة بذلك أعلى معدلات النمو في القطاع بنسبة قفزت إلى 15.5 % خلال العام الماضي، حتى تخطت مبيعاتها الإجمالية حجم سوق الحليب النباتي بالكامل.

ويبقى من المهم الإشارة إلى أن تحديات جديدة تلوح في الأفق، حيث تُلقي شيخوخة قطعان الماشية وانتشار إنفلونزا الطيور بظلالها على معدلات الإنتاج، مُنذرة بنقص محتمل، قد يُهدد الميزة السعرية الحالية للحليب التقليدي - البالغة 10 % - مقارنة بالبدائل النباتية، وهو ما قد يُعيد خلط الأوراق في هذه المنافسة المحتدمة.

وفي سياق متصل، أقدمت إدارة ترامب على تنفيذ تخفيضات جذرية في ميزانيات الوكالات الفيدرالية المعنية بسلامة الغذاء، حيث جمّدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية برنامجها لمراقبة جودة الحليب، فيما ألغت وزارة الزراعة لجنتين متخصصتين في سلامة الأغذية، وحلّت وزارة العدل الوحدة المسؤولة عن ملاحقة مخالفات سلامة الغذاء قضائياً.

ويزيد الطين بلة، التصريحات المتكررة لروبرت كينيدي جونيور وزير الصحة والخدمات الإنسانية، بشأن فوائد الحليب الخام، رغم المخاطر الصحية الموثقة لهذا المنتج.

وبينما تؤكد هيئة الغذاء والدواء، أن برنامج مراقبة الجودة سيُستأنف لاحقاً، وأن عمليات فحص العينات الغذائية متواصلة في مختبرات أخرى، تتصاعد المخاوف من احتمال تفشي الأمراض المنقولة عبر الأغذية بشكل خطير.

ويُشكل هذا الوضع تحدياً جسيماً لمنتجي الألبان، الذين استثمروا بكثافة في ترسيخ صورة منتجاتهم، كرمز للنقاء والصحة، ما يستدعي منهم اليقظة القصوى تجاه المخاطر الناجمة عن السياسات الحكومية قصيرة النظر، التي قد تُلقي بظلالها الثقيلة على مسيرة انتعاشهم الواعدة.