كريس غايلز

يشكل قرار دونالد ترامب بإقالة عضوة مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، ليزا كوك، لحظة فارقة، فالقرار تعبير واضح عن انتقال الرئيس الأمريكي من توجيه الانتقادات اللاذعة والشتائم ضد الفيدرالي، إلى شن هجوم مباشر يستهدف استقلالية المصرف المركزي، ومن ثم تتوفر كل الدواعي للخشية على متانة أحد الأعمدة الرئيسية للنظام الأمريكي والاستقرار الاقتصادي العالمي.

ومن المهم هنا النظر إلى الصورة الكاملة، لا الانشغال بالتفاصيل الجانبية.

فلا جدوى من التوقف طويلاً عند الجدل حول طلبات الرهن العقاري الخاصة بكوك، التي لا نملك بشأنها سوى رواية مشوبة بكثير من الالتباس.

ما نشهده في الواقع هو إجراء صارم ومخطط بدقة، يهدف إلى إخضاع الفيدرالي لرؤية الرئيس في كيفية إدارة الاقتصاد الأمريكي.

ومن المفترض أن يتخلى أعضاء مجلس المحافظين عن التوجهات السياسية على الباب الذي يدلفون منه إلى مبنى إكليس.

ولا تعمل المؤسسة على النحو المرغوب إذا كان هناك منتمون للأحزاب في مجلس المحافظين، لكن يبدو أن هذه هي النية التي يبيتها الرئيس.

وخلافاً لمحافظي الفيدرالي فالأعضاء الخمسة المتبقون من اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة هم رؤساء مصارف إقليمية للفيدرالي ولا يعينهم الرئيس ولا يصادق الكونغرس على تعيينهم، ويؤدي ذلك إلى وضعهم في موقف دستوري صعب من الناحية القانونية إذا ما كانوا سينضمون إلى أقلية من أعضاء مجلس محافظي الفيدرالي في معارضة أغلبية المجلس فيما يتعلق بالقرار بشأن أسعار الفائدة.

وبحسب دان تارولو، المحافظ السابق للفيدرالي الذي يعمل الآن أستاذاً بكلية الحقوق في جامعة هارفارد، يمكن لأغلبية مجلس المحافظين إقصاؤهم عن مناصبهم وضمان قدرة إمساك أغلبية أعضاء مجلس المحافظين بزمام وضع السياسة النقدية.

وكتب تارولو في العام الماضي أن مثل هذا السيناريو «ليس مناسباً لإدارة مصرف مركزي»، مضيفاً: «ستنهك الدراما المتعلقة بمسؤولي الفيدرالي الأسواق المالية.

وستقوّض هذه الدراما، لبعض الوقت على الأقل، الأسس الدستورية التي تستند إليها المؤسسة وتعتمد عليها المصارف المركزية في حصولها على مصداقيتها».

إن تارولو محق تماماً، لكن هذا هو أسلوب ترامب في إدارة الأمور، وإذا غادرت كوك منصبها، فلن يشعر إلا القليل من أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة بالأمان.

بالطبع يمكن لكوك أن تطعن على قرار إقالتها من منصبها أمام المحاكم الأمريكية، وقد تعهدت بهذا بالفعل، وعند الوضع في الاعتبار كيف تناولت المحاكم قضايا مشابهة من قبل، فلا يشي هذا إلا بأنها ستكون معركة مطولة، فهناك دعاوى أخرى ما زالت المحاكم تنظرها ورفعها مسؤولون آخرون عن مؤسسات غير حزبية أقالهم ترامب، مثل غوين ويلكوكس، التي أقالها من منصبها، عضوة في المجلس الوطني لعلاقات العمل في يناير الماضي، غير أنهم من غير المسموح لهم أن يمارسوا مهام وظائفهم إلى حين اتخاذ قرار نهائي.

وقد أعادت محاكم ذات درجات أقل هؤلاء المُقالين إلى مناصبهم على اعتبار أن قرارات الرئيس لا تستند إلى أساس قانوني، غير أن المحكمة العليا قررت في النهاية أنها ترغب في الاستماع إلى دفوع الجانبين، وفي هذه الأثناء، ارتأت أن ضرراً أكبر سيلحق بالرئيس إذا ظلوا في مناصبهم مقارنة بالضرر الواقع عليهم أو على مؤسساتهم إذا ظلوا بعيدين عن مناصبهم.

ونحن لسنا على علم بما إن كانت الأمور ستسير على النحو نفسه في نظر دعوى كوك، لكنه يبدو توقعاً مبدئياً معقولاً.

وفي نهاية الأمر سيعتمد المدافعون عن استقلالية الفيدرالي على المحكمة العليا، التي لها سجل في إقامة وزن أكبر لفرع تنفيذي قوي للحكومة، مقارنة بالضوابط والتوازنات.

ومن الواضح أن الأسواق المالية لا تعجبها تصرفات ترامب كثيراً، لكن ليس هناك من علامات تدل على قرب وقوع نوع انهيار يمكن أن يدفع بالرئيس إلى عكس مواقفه.

وبينما ننتظر حتى تتوصل المحكمة إلى حل هذه المسائل، فلا شك في أن المسار الأسهل أمام الفيدرالي سيتمثل في تطويع الحجج الاقتصادية بحيث تناسب معتقدات الرئيس.

وقد ألمح رئيس الفيدرالي، جيروم باول، بالفعل إلى أن المركزي سيخفض الفائدة في اجتماع سبتمبر، أي قبل وقت طويل من التوصل إلى حل للنزاع الدائر بين التضخم وسوق العمل، وبإمكاننا توقع المزيد من التصريحات التي تميل نحو التيسير من جانب الفيدرالي.

الأمر ليس نهاية حتمية للاستقلالية، لكنها نهاية بطيئة لا يزيد فيها التضخم الأمريكي إلا تفاقماً، فستسجل الفائدة مستويات أقل، وقد تكون الأسواق أكثر اغتباطاً لبعض الوقت، إلا أن المخاطر ستتنامى.

وحينما تحل علينا الأزمة المالية التالية، سيفتقد العالم مجلساً فيدرالياً يتمتع باستقلالية تامة، وقادراً على ضخ الدولار في مفاصل النظام المالي للعالم حينما يعاني من الشح، ولا يمكن أن تكون هناك ضمانة أن الفيدرالي سيواصل القيام بهذا الدور إذا كان ترامب هو الذي يملي عليه أفعاله.

إن القضية المتعلقة بواحدة من أعضاء مجلس محافظي الفيدرالي ليست شديدة الأهمية في حد ذاتها، لكنني لا أبالغ حينما أقول إن استقلالية الفيدرالي والدور الذي يقوم به في النظام المالي الدولي معلق على مصير كوك والتجربة التي ستمر بها مع القضاة الأمريكيين، لذا يجب أن نتمنى لها التوفيق.