جون ثورنيل

يشهد العالم اليوم واحدة من أضخم موجات الاستثمار في تاريخ البشرية، لتطوير ونشر تقنية متعددة الاستخدامات: الذكاء الاصطناعي، إذ يجري ضخ رؤوس الأموال بوتيرة غير مسبوقة في بناء البنية التحتية اللازمة لهذه الثورة الرقمية، في ظاهرة استثنائية، من حيث الحجم وسرعة الانتشار، تفوق أي ابتكار تقني سابق.

وأعلنت عمالقة التكنولوجيا الأربعة — غوغل وأمازون ومايكروسوفت وميتا — عزمها استثمار نحو 750 مليار دولار خلال العامين الجاري والمقبل، في مراكز البيانات المخصّصة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي.

وتشير تقديرات «مورغان ستانلي»، إلى أن إجمالي الإنفاق العالمي في هذا القطاع، سيصل إلى 3 تريليونات دولار بحلول عام 2029.

لكن في المقابل، تتزايد المخاوف بين المستثمرين الذين يتساءلون: ما العائد الحقيقي المنتظر من هذا التدفق الهائل لرؤوس الأموال؟ والتاريخ يؤكد أن شكوكهم ليست في غير محلها.

ولعل كارلوتا بيريز، صاحبة كتاب «الثورات التكنولوجية ورأس المال المالي: ديناميكيات الفقاعات والعصور الذهبية»، من أبرز الباحثين القادرين على وضع ظاهرة الذكاء الاصطناعي في سياقها التاريخي الصحيح.

فقد رصدت بيريز في كتابها خمس ثورات تكنولوجية كبرى: الثورة الصناعية أواخر القرن الثامن عشر، وثورة البخار والفحم والسكك الحديدية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وثورة الصلب والهندسة الثقيلة في سبعينيات القرن نفسه، ثم عصر الإنتاج الضخم مطلع القرن العشرين، وأخيراً ثورة تكنولوجيا المعلومات، التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي - وتعتبر بيريز أن الذكاء الاصطناعي مجرد امتداد لهذه الثورة الخامسة.

وتؤكد بيريز أن هذه الثورات تسير وفق دورة يمكن استقراؤها، حيث تفضي المرحلة التأسيسية إلى موجة من «التدمير الخلاق»، والاضطرابات الاجتماعية، مع انقلاب القطاعات الصناعية والمناطق الجغرافية رأساً على عقب، ويرافق ذلك عادة إفراط في الاستثمار، وهوس مالي، وفقاعات في أسواق المال.

ومع ذلك، كثيراً ما تكون هذه الفقاعات منتجة في نهاية المطاف، إذ تتيح تمويل البنية التحتية الحيوية اللازمة لنشر التكنولوجيا على نطاق واسع في ما بعد - كبناء خطوط السكك الحديدية أو شبكات الكهرباء - لتتجلى بعدها الفوائد الاقتصادية الأوسع نطاقاً. أما في ما يخص الذكاء الاصطناعي، فما زلنا نعيش في خضم مرحلة تأسيسية محمومة.

وقد جاء تقرير صادر عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ليعزز هذه الفكرة، حيث أثار منذ أيام قلق المستثمرين في الأسواق المالية، بكشفه أن 95 % من الشركات المشمولة بالدراسة لم تجنِ أي عائد من استثماراتها في الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولم يقدم سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، أي طمأنينة هو الآخر، حين سُئل عن احتمال وجود فقاعة في قطاع الذكاء الاصطناعي، إذ أجاب بصراحة: «أعتقد أن بعض المستثمرين مرشحون لخسارة مبالغ طائلة».

لذا، يبدو أن انهياراً مدوياً - أو سلسلة انهيارات - أمر محتم قبل بلوغ أي عصر ذهبي للذكاء الاصطناعي. وتؤكد كارلوتا بيريز ذلك بثقة قائلة: «لم أشهد يوماً ولادة عصر ذهبي دون أن يسبقه انهيار».

وبنبرة ساخرة، تضيف بيريز أن انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي، قد يفضي إلى زلازل اقتصادية أعمق، في ظل اختلال أداء أسواق المال العالمية، التي باتت تنصب على المضاربات، كالعملات المشفرة، أكثر من الاستثمارات المنتجة، في وقت تجاوزت فيه الديون العالمية ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وتحذر بقوة قائلة: «قد يشكل هذا المزيج شرارة لاضطراب مالي غير مسبوق».

والمستثمرون مدعوون للتأمل في خصوصية هذه الثورة التكنولوجية، مقارنة بسابقاتها، فهي بلا شك أول ثورة تقنية تعتمد على البرمجيات، بقدر اعتمادها على العتاد الصلب، ما يعيد تشكيل المعادلات المالية، مع تعاظم «تأثيرات الشبكة». فشركات البرمجيات يمكنها التوسع بسرعة فائقة، والوصول إلى العالمية في وقت قصير للغاية.

وها هو روبوت «شات جي بي تي» يستقطب 700 مليون مستخدم أسبوعياً، بعد أقل من ثلاث سنوات على إطلاقه، لكن إذا كانت العولمة الرقمية توسع دائرة الفرص، فإنها تضاعف المخاطر أيضاً - ولنا في نموذج «ديب سيك» الصيني منخفض التكلفة عبرة، والذي تسبب في هزة لأسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية.

غير أن الفارق الأكثر إثارة للتأمل، ربما يكمن في مدى قدرة شركات الذكاء الاصطناعي اليوم على الاستئثار بالمكاسب المالية التي تسهم في إطلاقها، فهذه التقنية تدفع عجلة التقدم في مجالات متعددة: كالتكنولوجيا الحيوية والروبوتات وعلوم المواد.

وبوسع شركات الذكاء الاصطناعي استغلال تفوقها التقني للتحول إلى لاعب رئيس في قطاعات الرعاية الصحية، أو اكتشاف الأدوية، أو المركبات ذاتية القيادة.

فإلى أي مدى يمكنها أن تتحول إلى كيانات متعددة الأغراض تقطف ثمار العصر الذهبي؟.

إن بيريز تشدد على ضرورة استخلاص درس جوهري آخر من الثورات السابقة، إذ لا سبيل لبلوغ عصر ذهبي، دون أن يصوغ المجتمع المدني الثورة وفق مصالحه.

فالساسة في الماضي أسسوا هيئات مكافحة الاحتكار، لكبح جماح الشركات المتغولة، وأرسوا دعائم دولة الرفاه، للتخفيف من صدمات سوق العمل.

وترى بيريز أن خلل الأسواق المالية اليوم، وتركيز القوة بيد عدد قليل من الشركات، وصعود الشعبوية، والتهديد المناخي، قد دفعت العالم إلى منعطف تاريخي جديد.

أما كيفية الاستجابة لهذه التحولات، فهو ما سيتناوله كتابها القادم.

لكن في كل الأحول، يعلمنا، كما كتب المؤرخ إيه جيه بي تايلور ذات مرة عن ثورات 1848 الأوروبية، أن الشعوب قد تصل أحياناً إلى منعطفات تاريخية حاسمة - ثم تفشل في دخول المنعطف.