تأتي المؤشرات الاقتصادية في الولايات المتحدة متباينة وغامضة، وأحياناً متناقضة، ويبرز هذا التناقض بوضوح من خلال اثنين من أبرز المؤشرات الأمريكية:

مبيعات التجزئة ونمو الوظائف، فبعد صدور تقرير مبيعات التجزئة لشهر يونيو، ورغم الأداء المستقر للقطاع ككل، ظهرت مؤشرات مقلقة لتأثير الرسوم الجمركية، وقد انعكس ذلك في ضعف أداء القطاعات المعتمدة بكثافة على السلع المستوردة التي ارتفعت أسعارها، مثل الأثاث والأجهزة الإلكترونية.

وجاء تقرير يوليو، ليؤكد استمرار بعض الاتجاهات السلبية؛ إذ تراجعت مبيعات الإلكترونيات مجدداً، فيما شهدت فئات أخرى، كالأثاث، انتعاشاً طفيفاً، كما جرى تعديل بيانات يونيو بالرفع قليلاً ومع ذلك، وبصورة فاقت التوقعات، لا تزال مبيعات التجزئة تحافظ على زخمها.

وتحسب هذه الأرقام بالقيمة الاسمية، غير أنها حتى بعد تعديلها وفقاً لمعدلات التضخم، تحافظ مبيعات التجزئة على نمو سنوي يقارب 2%، وتأتي مؤشرات القطاع الخاص داعمة لهذه الصورة الإيجابية.

فقد أعلن «بنك أوف أمريكا» عن قفزة في حجم الإنفاق عبر بطاقاته الائتمانية وبطاقات الخصم المباشر بنحو 2% خلال يوليو، محققاً أعلى معدل نمو منذ يناير.

في مقابل ذلك، فإن وتيرة خلق الوظائف آخذة في التباطؤ، فكيف يمكن تفسير هذا التباين الظاهري بين استقرار الاستهلاك وتراجع التوظيف؟

* التراجع في عدد الوظائف قد يكون نتيجة انخفاض المعروض من العمالة، وليس ضعفاً في الطلب الأساسي الذي كان سينعكس حتماً على الإنفاق الاستهلاكي.

* نظراً لأن الإنفاق الاستهلاكي بات يعتمد بشكل متزايد على الشرائح الأعلى دخلاً، فإن بيانات المبيعات قد تخفي مواطن الضعف في الاقتصاد التي تظهر بوضوح في تقارير التوظيف. ويظهر ذلك جلياً في تصنيف بنك أوف أمريكا للإنفاق عبر البطاقات حسب شرائح الدخل.

* لا تزال ميزانيات الأسر قوية إلى حد كبير، ما يمكنها من الحفاظ على نمط إنفاق طبيعي حتى مع تباطؤ الاقتصاد ونمو الوظائف.

وتظهر مؤشرات متانة هذه الميزانيات في تقرير بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك حول ديون الأسر وائتمانها للربع الثاني، والذي أشار إلى انخفاض معدلات التحول إلى حالات التخلف عن السداد عبر مختلف أنواع القروض والفئات العمرية (باستثناء واضح لقروض الطلاب).

* استناداً إلى بطاقات الائتمان، من المحتمل أن يتباطأ الاستهلاك في نهاية المطاف ليتماشى مع اتجاه سوق العمل.

وعلى سبيل المثال، كتب أوليفر ألين من شركة «بانثيون ماكرو إيكونوميكس» أن «المزيد من التراجع قادم، حيث تؤدي هشاشة سوق العمل وارتفاعات الأسعار المرتبطة بالتعريفات الجمركية إلى جمود الدخول الحقيقية، والأكثر من ذلك، يكشف انخفاض مبيعات خدمات الطعام بنسبة 0.4% في يوليو أن التباطؤ الاستهلاكي منذ مطلع العام بات يضغط على الطلب على الخدمات الاختيارية أيضاً، وليس فقط على السلع».

وأظهرت أسواق الخزانة الأمريكية استقراراً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية؛ حيث ظلت العوائد تتحرك ضمن نطاقات تداول محدودة على امتداد منحنى العائد، مع تراجع منهجي في التقلبات الضمنية. ويمكن أن نعزو هذا الاستقرار إلى التوازن الكامن بين آفاق النمو والتضخم، حيث يعادل أحدهما تأثير الآخر. لكن ثمة تفسيراً آخر محتملاً: أن التقلبات يجري كبحها بصورة متعمدة.

ويرى مايكل هاويل من مؤسسة «كروس بوردر كابيتال» أن كبح التقلبات في سوق سندات الخزانة الأمريكية «يبدو سياسة متعمدة» ينتهجها الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية.

وينطلق طرح هاويل من فرضية مفادها أن المشتري الهامشي الرئيسي لسندات الخزانة طويلة الأجل هم متداولو الفروق السعرية، وهم صناديق استثمار تحتفظ بمراكز كبيرة ممولة بالرافعة المالية في سندات الخزانة، مقابل مراكز بيع قصيرة في العقود الآجلة للسندات، مع المراهنة على أن الفارق الطفيف في الأسعار بين السندات والعقود الآجلة سيتلاشى في النهاية.

ومع تسطح منحنى العائد وتراجع إقبال المستثمرين الأجانب على سندات الخزانة، لا يبقى في السوق سوى هؤلاء المتداولين بوصفهم المشترين الوحيدين الذين يرون جاذبية في السندات طويلة الأجل، غير أن هذه الاستراتيجية المعتمدة على الرافعة المالية العالية تتطلب بيئة مستقرة منخفضة التقلب. وأي ارتفاع في تذبذبات أسعار السندات كفيل بدفع هؤلاء المتداولين للانسحاب سريعاً من السوق.

ولذلك، تسعى السلطات النقدية والمالية إلى إبقاء هؤلاء المتداولين في السوق عبر ضمان وفرة السيولة في أسواق النقد، ما يكفل استقرار سوق السندات.

ويلفت هاويل إلى أن هذا المسعى لكبح التقلبات قد يقف وراء عدد من الخيارات والسياسات المتبعة حالياً، منها: تراجع استخدام الاحتياطي الفيدرالي لأداة إعادة الشراء العكسي؛ وتكثيف عمليات «إعادة الشراء» الاستراتيجية للخزانة (باستبدال السندات خارج دائرة التداول النشط بأخرى أكثر سيولة).

والتلويح بإلغاء نسبة السيولة الإضافية للمصارف (ما يوسع قدرتها على امتلاك المزيد من السندات الحكومية)، والتحول التدريجي نحو إصدارات دين أمريكية ذات آجال استحقاق أقصر.

ورغم أن بعض المتابعين قد يستشعرون نزعة تآمرية في تحليل هاويل، فهناك اتفاق معه في جوهر الفكرة، حيث يمثل استقرار سوق السندات ركيزة محورية لسائر قطاعات الأسواق المالية، باعتبار سندات الخزانة أهم أدوات الضمان في عمليات التداول، وتنخفض قيمتها حتماً مع ارتفاع معدلات تذبذبها.

لذا، تتقاطع مصالح جميع اللاعبين في الأسواق تقريباً حول الحفاظ على هدوء سوق السندات، ما قد يدفعهم للانخراط في نوع من التنسيق الضمني للحفاظ على هذا الاستقرار. ويظل كبح جماح التقلبات - في عالم الأسواق كما في الطبيعة - أمراً متعذر الاستدامة على المدى البعيد. لذا، يتعين إبقاء سوق السندات الحكومية تحت المجهر.

من ناحية أخرى، وبالنسبة لهيمنة قطاع التكنولوجيا على الأسواق، فهناك من لا يتفق مع وجهة النظر التي تقول إنه حتى لو أخفق الذكاء الاصطناعي في تحقيق الأرباح المتوقعة، فإن الاستثمارات في مراكز البيانات لن تذهب سدى، إذ «ستجد كل هذه القدرة الحاسوبية نفعاً في شيء ما».

وقد استنتج نيك بانر، بشكل صائب استحضارنا لفائض سعة الألياف البصرية الذي نشأ إبان فقاعة شركات الاتصالات والإنترنت، والذي أثبت جدواه بعد انفجار الفقاعة.

غير أن بانر يرى أن هذا السيناريو لن يتكرر مع مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، إذ يقول: «شعيرة الألياف الضوئية تبقى شعيرة ألياف، ويمكن الوصول إلى معدلات بيانات أعلى باستمرار عبر تحديث المعدات الطرفية (الليزر، وأجهزة المضاعفة، والمضخات، وغيرها).

أما مراكز البيانات فهي في جوهرها رفوف من شرائح إنفيديا عالية الأداء، لكن هذه الشرائح تعد في واقع الأمر مواد استهلاكية؛ إذ يجري استهلاكها محاسبياً خلال 2 إلى 4 أعوام، لأنها تستبدل بأجيال أحدث في تلك الفترة.

والطلب على وحدات معالجة رسومات عمرها 4 سنوات منخفض للغاية، كما أن الدافع الرئيسي وراء الطلب الهائل عليها اليوم يقتصر تقريباً على تطبيقات الذكاء الاصطناعي».

وإذا صح هذا الطرح، فثمة رهان كبير على نجاح الذكاء الاصطناعي كمشروع تجاري (وليس مجرد ابتكار تقني)، فإذا خبت الآفاق الربحية للذكاء الاصطناعي، ستتعرض القيمة السوقية لشركة إنفيديا البالغة 4.4 تريليونات دولار لانتكاسة كبرى.

وستتكبد تقييمات عمالقة التكنولوجيا مايكروسوفت وألفا بيت وميتا ضربة قاسية، حيث ستلوح في الأفق عمليات شطب أصول بمليارات الدولارات، وسيتحتم تخفيض توقعات النمو بشكل جذري، وهكذا، تبدو المعضلة أقل ارتباطاً بظاهرة التركز السوقي المرتفع وأكثر صلة بسقف التوقعات السوقية المبالغ في ارتفاعه.