روبرت أرمسترونغ - هاكيونغ كيم

بلغت أسهم شركات أشباه الموصلات ذروتها في يوليو 2024، وبعد فترة قصيرة نشرت «فاينانشال تايمز» مقالاً بعنوان «وداعاً لانتعاش أشباه الموصلات»، جاء فيه:

«يشهد الاقتصاد العالمي تزايداً مطّرداً في اعتماده على السيليكون، في ظاهرة تشبه إلى حد كبير ازدياد الاعتماد على الصلب في القرن الماضي، غير أن صناعة الرقائق الإلكترونية تتفوق بوضوح على صناعة الصلب، من حيث الجدوى الاقتصادية، خاصة أنها تتميز بارتفاع الحواجز أمام الدخول على ساحة الصناعة.

وبغضّ النظر عن التقلبات الدورية الراهنة، يبقى المسار الهيكلي طويل الأمد لهذه الصناعة ثابتاً، ما يجعل تحوّل السوق من انتعاش دوري متوقّع، إلى تراجع ظرفي، فرصة لا ينبغي تفويتها».

وهذا ما حدث تقريباً: فقد توقفت موجة الصعود، واستقر القطاع في حركة أفقية، خلال ما تبقى من عام 2024، مسجّلاً أداءً أقل من المؤشر العام للسوق.

ثم تلقّى ضربة قاسية، بسبب مخاوف الرسوم الجمركية في الأشهر الأربعة الأولى من 2025، قبل أن يستعيد زخمه بقوة منذ أبريل، ليصبح ما عُرف بـ«يوم التحرير»، بمثابة فرصة استثمارية كبرى.

وتتداخل هذه القصة بقوة مع الضجة المحيطة بالذكاء الاصطناعي، فمنتجات شركات الرقائق كـ «إنفيديا» و«برودكوم»، تُستخدم في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ما جعلهما من بين أكثر الشركات قيمة في العالم.

لكن المزيد من الاهتمام يجب أن ينصب على نوعية أقل بريقاً من الرقائق، وهي تلك المستخدمة في الصناعة لأغراض الإشارات وإدارة الطاقة والأتمتة وما شابه، أو ما يُعرف بالرقائق التناظرية.

وشركات الرقائق التناظرية شديدة التأثر بالدورات الاقتصادية، وغالباً ما تسبق دوراتها الدورة الاقتصادية العامة والتجارية الأوسع. فكيف يمكن تقييم أداء هذه الشركات اليوم؟ وماذا يخبرنا ذلك عن وضع الاقتصاد؟.

عند النظر إلى أداء أسهم بعض أكبر اللاعبين في هذا القطاع خلال عام واحد، نلاحظ نمطاً متكرراً: أداء ضعيف قبل «يوم التحرير»، يليه أداء قوي بعده، لكن رغم ذلك، لا تزال أسعار العديد من هذه الأسهم أقل مما كانت عليه قبل عام. إلا أن المثير حقاً للاهتمام، هو مسار نمو الإيرادات، الذي بدأ في الصعود، بعد أن بلغ القاع.

وهذا لا يشير فقط إلى أن أمام أسهم الرقائق التناظرية مزيداً من الزخم المحتمل، بل قد يكون أيضاً مؤشراً على أن الاقتصاد الصناعي العالمي في طريقه إلى انتعاش مرتقب، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك عاملان مرتبطان يزيدان الصورة تعقيداً، وفق ما أوضحه كريس كاسو، محلل الرقائق في «وولف ريسيرش»:

أولاً، ليس واضحاً مدى تأثير مساعي العملاء الاستباقية لتجنب الرسوم الجمركية على نمو الإيرادات مطلع العام.

ثانياً، هناك غموض حول ما إذا كانت الزيادة الأخيرة في المبيعات، تعكس استهلاك العملاء للمخزون الفائض، أم أنها تؤشر لانتعاش في الطلب النهائي. وهذا هو الجدل الدائر حالياً في الصناعة. ما زلنا ننتظر مؤشراً واضحاً بشأن اتجاهات الطلب.

على صعيد آخر، كشفت أحدث بيانات قطاع البناء السكني الصادرة عن مكتب الإحصاء الأمريكي، عن نتائج أقوى من المتوقع، حيث ارتفعت مشروعات الإسكان الجديدة بنسبة 5 % في يوليو، مقارنة بالشهر السابق. فهل تمثل هذه الأرقام بارقة أمل في أحد أكثر جوانب الاقتصاد الأمريكي تضرراً؟.

الإجابة المختصرة: لا، فمؤشرات بدء أنشطة البناء السكني تتسم بالتذبذب، إذ قد تتأثر بعوامل مؤقتة، مثل الأحوال الجوية، ما يؤدي إلى تقلبات حادة. وعند النظر إلى المتوسط المتحرك لثلاثة أشهر، نجد أن الزيادة الحقيقية متواضعة للغاية.

ويتفق أوليفر ألين من مؤسسة «بانثيون ماكروإيكونوميكس» مع هذا التحليل، قائلاً: «القفزة في بدء المشاريع السكنية خلال يوليو، ليست سوى ضجيج عابر، وليست مؤشراً على أن قطاع البناء السكني الجديد يشهد نقطة تحول».

وتبدو الأرقام مبالغاً فيها، نتيجة تراجع المشاريع السكنية في يونيو إلى أدنى مستوى لها خلال 11 شهراً. كما أن معظم المكاسب المسجلة، جاءت من المجمعات السكنية متعددة الوحدات، وليس من المنازل الفردية.

ثمة مقياس أفضل وأكثر استقراراً لأحوال سوق الإسكان، يتمثل في تصاريح البناء الجديدة، فقد انخفضت هذه التصاريح بنسبة 2.8 % على أساس شهري في يوليو، ما يعكس صورة أكثر ضعفاً بكثير على مدار العام المنصرم.

وبحسب ما صرح به ريك بالاسيوس من مؤسسة «جون بيرنز للأبحاث والاستشارات»: «نحن نولي أهمية أكبر لبيانات التصاريح. وتعد أرقام مشروعات الإسكان التي صدرت مفاجئة، إذ لا تتطابق مع أي من المؤشرات التي رصدناها داخل القطاع».

كما تؤكد مصادر البيانات الخاصة، وجود فجوة حقيقية بين الأرقام القوية ظاهرياً لمشروعات الإسكان الجديدة، والواقع الضعيف فعلياً. ففي استطلاع أجرته مؤسسة «جون بيرنز» للمطورين العقاريين عبر الولايات المتحدة، أفاد 63 % منهم، بلجوئهم إلى تسريح موظفين خلال الشهر المنصرم.

وأضاف: «من غير المنطقي أن تلجأ شركة بناء سكني لتسريح العمالة بهذا الحجم، في الوقت الذي يُفترض فيه أنها تزيد من وتيرة البناء، وهو ما توحي به بيانات مشروعات الإسكان الفردية.

ومن الصعب أن تجد في الوقت الراهن مطوّراً عقارياً يصرّح بأن السوق يشهد تفاؤلاً متزايداً بشأن زيادة المعروض من الوحدات السكنية، في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة».

فهل يمكن أن تُسهم تخفيضات أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي، في إنعاش قطاع الإسكان؟ المعضلة أن أسعار الرهون العقارية لا ترتبط مباشرة بمعدل الفائدة الفيدرالية، بل إن معدلات الفائدة طويلة الأمد، هي التي تتحكم فعلياً في تسعير الرهون العقارية، تخضع لمنظومة معقدة من المتغيرات.

ويُشير أوليفر ألين إلى أن هناك فجوة كبيرة بين معدل الرهن العقاري الثابت لمدة 30 عاماً في السوق، والذي يبلغ حالياً نحو 6.5 %، وبين المعدلات المنخفضة التي استفاد منها العديد من أصحاب المنازل قبل ارتفاع التضخم. ولتحفيز الطلب على المنازل الجديدة، لا بد من انخفاض ملموس في أسعار الفائدة طويلة الأجل، لتقليص هذه الفجوة، ودفع عجلة الطلب.

ويضيف أن دوافع الاحتياطي الفيدرالي وراء خفض الفائدة، ستلعب دوراً محورياً أيضاً، فالسيناريو الذي تدفع فيه مشكلات سوق العمل، وليس تراجع التضخم نحو خفض الفائدة لن يكون مجدياً لسوق الإسكان، إذا كان المشترون المحتملون يشعرون بالقلق حيال مستقبلهم الوظيفي.

لكن الأهم من ذلك، بحسب ألين، أن شركات البناء السكني قد تظل عالقة في فخ فائض المعروض، حتى مع بدء خفض الفائدة: ويوضح قائلاً «إذا انخفضت معدلات الرهن العقاري، وارتفع الطلب على الإسكان.

فهذا أمر جيد، غير أن هذا التراجع، في المقابل، قد يدفع مالكي المنازل الحاليين للتحرك، وطرح عقاراتهم في السوق، وزيادة المعروض، ما يعني أن شركات البناء ستواجه منافسة شرسة من سوق المساكن القائمة. ولذا، يصعب تصور مخرج سلس لشركات البناء، فالمخزون لديهم ضخم، ولا بد من إيجاد حل له، ولا تلوح في الأفق سيناريوهات مشرقة كثيرة».