تشيتان أهيا
من تابع تطورات الشأن الصيني خلال السنوات القليلة الماضية سيجد نفسه أمام عدد من العبارات المتكررة مثل «إصلاحات جانب العرض» و«الخطوط الحمراء الثلاثة»، فضلاً عن الشعار الذي تردّد مراراً في أروقة صنع القرار: «الإسكان للعيش لا للمضاربة».
ومؤخراً، برز مصطلح جديد هو «مكافحة الانغماس التنافسي»، ليصبح أحدث المفاهيم الاقتصادية المتداولة في الصين.
ويُقصد بـ«الانغماس التنافسي» حالة التنافس المحموم بين المنتجين، والتي تفضي إلى فائض في القدرات الإنتاجية، وانهيار في الأسعار، وتراجع في العوائد على رأس المال المستثمر.
وتهدف حملة مكافحة «الانغماس التنافسي» إلى مواجهة التحديات المستمرة الناجمة عن الانكماش الاقتصادي.
وقد تبنّت بكين خلال السنوات الأخيرة تدابير تركز على جانب العرض، من بينها فرض قيود على الإنتاج في قطاعات أساسية مثل الصلب والأسمنت.
وتمثل الحلقة المفرغة بين الديون والانكماش التحدي الرئيس الذي يواجه الاقتصاد الصيني، حيث نجمت أزمة الانكماش عن السياسة المضادة للتقلبات الدورية التي انتهجتها بكين بهدف الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة نسبياً للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي مع تبني مستويات استثمارية مرتفعة، وعلى مدار السنوات الأربع المنصرمة، عمد صناع السياسات إلى دفع عجلة الاستثمار في قطاعي التصنيع والبنية التحتية لمواجهة تباطؤ قطاع العقارات، مما أدى إلى تصاعد حدة الضغوط الانكماشية.
وتتسم أزمة فائض الطاقة الإنتاجية الراهنة بعدة سمات تزيد من تعقيد مساعي مكافحة الانغماس التنافسي، أولاها أن فائض الإنتاج في قطاعات الطاقة الشمسية والبطاريات والمركبات الكهربائية يعد حديث النشأة، فعلى سبيل المثال، جرى بناء الجزء الأكبر من طاقة تصنيع الألواح الشمسية منذ عام 2022، على عكس قطاعي الصلب والأسمنت اللذين خضعا لإصلاحات من جانب العرض في الفترة 2015 - 2016.
كذلك، تهيمن الشركات الخاصة على معظم القطاعات الرئيسة التي تعاني من تخمة الإنتاج، الأمر الذي يضفي تعقيدات إضافية على عملية إعادة هيكلة العرض، إذ تشير التحليلات إلى استحواذ الشركات الخاصة على حصة سوقية تتجاوز 95% في قطاعي الطاقة الشمسية والبطاريات، و65% في قطاع السيارات الكهربائية، مقارنة بـ35% في قطاع الصلب و50% في قطاع الأسمنت.
كما بات الانكماش الاقتصادي أكثر حدة مما كان عليه سابقاً، فقد شهد مُعامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي- المؤشر الأشمل للأسعار الذي يغطي كافة السلع والخدمات في البلاد - انخفاضاً مستمراً على مدى 9 فصول متتالية (منذ الربع الثاني من 2023) مقارنة بفصلين فقط في 2015.
ولم يتجاوز متوسط مؤشر أسعار المستهلك 0.1% على أساس سنوي منذ الربع الثاني من 2023 مقارنة بـ1.7% في 2015، فضلاً عن اختلاف بنية انكماش مؤشر أسعار المنتجين. وفي 2015، كانت القطاعات المرتبطة بالسلع الأولية (المرتبطة بأسعار السلع العالمية) مسؤولة عن قرابة ثلثي الانكماش، أما اليوم فتشكل السلع غير الأولية ما يزيد على 70% من إجمالي الانكماش.
وعلى مستوى القطاعات، قد يؤدي تقليص فائض الطاقة الإنتاجية إلى تعزيز القدرة على التحكم بالأسعار، غير أن ذلك قد لا يكفي في مجمله لانتشال الاقتصاد من دوامة الانكماش، فيتعين على صناع القرار الكف عن تشجيع إنشاء طاقات إنتاجية جديدة، حيث سيمثل الإقرار الضمني أو الصريح بمستهدف أدنى لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خطوة محورية، إلى جانب تخفيف الضغوط الدافعة نحو استمرار توجيه الاستثمارات إلى قطاعي الصناعة والبنية التحتية.
كما يتعين إجراء تخفيضات ملموسة في فائض الطاقات الإنتاجية القائمة لمواءمتها بشكل أفضل مع مستويات الطلب، فعلى سبيل المثال، تفوق الطاقة الإنتاجية الصينية وحدها في قطاع الطاقة الشمسية ضعفي الطلب العالمي (بما في ذلك الصين).
وفي قطاع بطاريات السيارات الكهربائية، تتجاوز النسبة 1.3 مرة، وستضمن عملية خفض الطاقة الإنتاجية تحقيق جميع القطاعات مجتمعة عائداً معقولاً على رأس المال المستثمر.
ومع ذلك، فإن الطلب يظل العامل الحاسم، ففي الدورات الاقتصادية السابقة، ساهم انتعاش قطاعي الصادرات والعقارات في تعزيز الطلب الإجمالي، ولعب دوراً أكبر من العرض في الخروج من دوامة الانكماش، إلا أن هذه المحركات باتت أقل فاعلية الآن، حيث يُرجح أن تؤدي التوترات التجارية المتواصلة إلى إضعاف نمو التجارة، بينما يُعيق التراجع السكاني في الصين إنعاش قطاع العقارات، وسيشكل حتماً عبئاً على الطلب الإجمالي في الاقتصاد.
والمصطلح الجديد الذي أتمنى أن يكتسب رواجاً في الصين هو «إعادة التوازن»، إذ يُعدّ التحول نحو دعم الاستهلاك أمراً محورياً لتحقيق مزيج نمو أكثر توازناً، يمكنه أن يُخرج الاقتصاد من دائرة الانكماش بشكل مستدام.
وفي ظل المعطيات الحالية، فإن تقليص الطاقة الفائضة سيؤدي إلى تباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وبعدها ستحتاج الصين إلى محرك نمو بديل للحيلولة دون انحدار سريع قد يُلقي بظلاله على الاستقرار المجتمعي.
وفي هذا السياق، ستُسهم الجهود المنهجية لزيادة الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية، ولا سيما للعمالة المهاجرة في المدن الصينية والفقراء في الأرياف، في دفع عجلة الاستهلاك، حيث تتخطى نسبة الادخار الأسري للعمال المهاجرين حاجز الـ40%، وسيكون تقليص هذا الادخار الاحترازي عاملاً أساسياً في رفع مستوى الاستهلاك العام.
واستناداً إلى التجارب السابقة، من المرجّح أن يزداد الزخم حول جهود ما يُعرف بـمكافحة «الانغماس التنافسي» في الصين خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، لكن في ظل غياب انتعاش الطلب الكلي، من المرجح أن تواصل البلاد معركتها الطويلة والمضنية ضد الانكماش الاقتصادي.