جانان غانيش

اطلعت أخيراً على رسم بياني يتتبع معدلات دخل الفرد عبر العصور، ولاحظت خطاً شبه أفقي يمتد من عام 1000 قبل الميلاد حتى أواخر القرن الثامن عشر؛ حيث ظلت مستويات المعيشة حول العالم في حالة تكاد تكون متشابهة امتدت لنحو ثلاثة آلاف عام، إلى أن جاءت الثورة الصناعية لتقلب المشهد رأساً على عقب، إذ ارتفعت الدخول على نحو صاروخي، ليغدو الرسم البياني أشبه بمخطط لقلب مريض شارف على الموت، ثم يفاجئ الجميع بعودة الحياة إليه في اللحظة الأخيرة.

لهذا، يجدر التريث قبل تشبيه البعض للذكاء الاصطناعي بالثورة الصناعية من حيث الأهمية، فمجرد تشبيهها بالهاتف أو المصباح الكهربائي سيكون إنجازاً هائلاً بحد ذاته، وهما اختراعان ارتبطا بالطفرة الحقيقية في مستويات الدخل مع اقتراب عام 1900، غير أن معيار نجاح الذكاء الاصطناعي قد يتجاوز المقاييس الاقتصادية ليشمل تحسين نوعية الحياة.

ولنتأمل مثلاً أنه قبل اختراع الفونوغراف، كانت المقطوعة الموسيقية المفضلة لديك حدثاً نادراً لا تسمعه إلا مرات معدودة، عندما تمر أوركسترا بمدينة ما وتقرر عزفها.

وقبل ثورة الطيران، كان عبور المحيط مغامرة مضنية، بينما بات اليوم من أيسر الأمور. فهل يرتقي الذكاء الاصطناعي ليحدث في حياتنا تحولاً جذرياً مماثلاً لما أحدثته تلك الاختراعات الثورية؟

كم أتمنى أن أنحاز إلى صف المشككين في الذكاء الاصطناعي، لكن ينبغي تأمل الأخطاء الفكرية الفادحة التي يقع فيها أمثالهم، فالفقرتان السابقتان مثلاً تعتمدان بشكل مفرط على الاستقراء كدليل استرشادي للمستقبل.

وهما تفتقران إلى التفاصيل التقنية، إذ على عكس معظم المتحمسين للذكاء الاصطناعي، لا أعمل في هذا المجال أو حتى في محيطه.

وثمة حجج أكثر هشاشة يطرحها المتشككون، فعلى الأقل لم أنزلق إلى سرد القصص الطريفة من قبيل «نصحني تشات جي بي تي بتعاطي الهيروين كعلاج للزكام».

وهناك الرأي المعتدل بشأن الذكاء الاصطناعي والمتمثل في «الترقب والانتظار»، والذي يمكن تطبيقه على أي قضية، دون أن يقدم إرشاداً للمستثمرين حول ما يتعين عليهم فعله، أو توجيهاً للمواطنين بشأن كيفية التأهب للمستقبل.

في نهاية المطاف، ليس هناك الكثير مما يستدعي الاهتمام المفرط بموضوع الذكاء الاصطناعي.

ثمة تغطيات صحافية رائعة عن الشركات العملاقة والاستراتيجيات الوطنية والتقنية ذاتها، فلتبق على اطلاع بكل ذلك، لكن حين يتعلق الأمر بالتأملات والتكهنات - عالم كتاب الأعمدة والمنتديات النقاشية - هل رأينا من قبل خطاباً بهذا القدر من الضحالة قياساً إلى حجمه الإجمالي؟

إن المروجين لضجة الذكاء الاصطناعي يعيشون في قلب الظاهرة إلى درجة لا تسمح لهم برؤيتها بوضوح.

وسواء أكان لديهم دافع تجاري للترويج للذكاء الاصطناعي أم لا (وكثيرون ليس لديهم ذلك)، فإن من يكرس حياته لشيء ما يصعب عليه تقبل احتمال أن يكون تأثيره محدوداً. وفي المقابل، يصعب مجادلتهم دون الاستناد إلى السوابق والنظريات الثابتة.

فكون معظم نقاط التحول التاريخية لم تكن كذلك في الحقيقة، لا يعني بالضرورة أن هذه الحالة مشابهة. والنقاش حول الذكاء الاصطناعي غالباً ما يكون صراعاً بين من يملكون المعرفة لكنهم يتجهون إلى التهويل، ومن يتسمون بالاتزان لكنهم يتحدثون بعمومية.

والأدهى من ذلك، أننا على الأرجح لن نعرف أبداً من كان مصيباً في تقديراته، فحلقات مسلسل «عائلة سيمبسون» من تسعينيات القرن الماضي سخرت من الإنترنت بأسلوب ينظر إليه اليوم على أنه محرج للغاية. لكن كتاب تلك الحلقات يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.

وقد يقول البعض، إن نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لم يرتفع عما كان عليه في العقود السابقة للإنترنت، كما أن الكثير مما نفعله، مثل السفر، لم يتغير كثيراً. وهكذا فإن تلك الحلقات، رغم قدمها، لم تدحض بعد.

إن السيناريو الأسوأ هو أن يقضي الذكاء الاصطناعي على شريحة معتبرة من الوظائف، لكنها ليست بالضخامة المتوقعة. في عالم كهذا، سيكون هناك ضحايا كثر، لكن ليس بالعدد الكافي لتشكيل كتلة انتخابية قادرة على فرض تشريعات للدخل الأساسي الشامل أو ما يماثله.

بمعنى آخر، إذا صدقت توقعات المتشككين في الذكاء الاصطناعي (وكان تأثير التكنولوجيا أقل جذرية)، فإن المحذرين من مخاطره سيكونون محقين أيضاً (بأن الاضطرابات الاجتماعية آتية لا محالة). فمن سيظفر بالغلبة في هذا السجال؟

من بين كل ما يقال حول الذكاء الاصطناعي، وجدت سمة واحدة مفيدة فعلاً: أنه يكشف عن طبائع الناس الأصلية. فمعارفي الذين يرون أن الذكاء الاصطناعي سيحدث زلزالاً مدمراً هم أصلاً الأكثر حساسية وتوتراً.

أما من يتوقعون منه تأثيراً زلزالياً إيجابياً محسناً للحياة، فهم الأكثر بهجة وقابلية للإيمان بالأشياء. في المقابل، فإن المشككين في إحداثه لأي تأثير جذري هم أناس مثلي، متوازنون إلى حد يقارب الاستهتار. وهكذا، يستمر جدل الذكاء الاصطناعي ويتصاعد لأنه، في المآل الأخير، يدور حولنا نحن.