كاتي مارتن
لم يكن من المفترض أن تسير الأمور على نحو ما يجري حالياً، إذ كانت الحكمة السائدة قبل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تقول إن الأسواق ستقف بقوة في وجه نزعاته الأكثر جموحاً، وإن ما يُعرف بـ «حراس الأسهم» سيتحركون لزعزعة كبرى المؤشرات عند أي بوادر تجاوز من جانبه، بما يدفعه إلى سلوك مسار أكثر تقليدية.
ولبرهة وجيزة، بدا أن هذه التوقعات في محلها، فقد أبدى مستثمرو الأسهم رد فعل سلبياً عند أول تحركات ترامب لفرض رسوم جمركية على الواردات، قبل أن يزداد هذا الرفض حدةً، بعد صدمة الرسوم الجمركية الشاملة في الثاني من أبريل، التي تراجع عنها الرئيس بعد أسبوع، تحت ضغط الشقيق الأكبر والأكثر إثارة للرهبة: سوق السندات.
ومنذ ذلك الحين، واصل المستثمرون تحدي ترامب مرة تلو الأخرى، متجاهلين سلسلة من القرارات السياسية المثيرة للجدل، على أمل أن يتراجع عنها في نهاية المطاف، لكن المشكلة أن ترامب بات لا يتراجع عن مواقفه إلى حد كبير، والنتيجة أن المستثمرين أصبحوا يتجاهلون، من جانبهم، تطورات كانوا، وفق المقاييس المعتادة، ليفروا هرباً منها.
وتعالوا بنا نتصوّر أننا سنركب آلة الزمن، وسنعود عاماً إلى الوراء، لنخبر أحد مديري الأموال بما يبدو عليه العالم في أغسطس 2025: أسواق الأسهم الأمريكية أكثر تركّزاً على حفنة ضئيلة من الشركات، أكثر من أي وقت مضى.
وقد تمكّن الرئيس التنفيذي لواحدة من هذه الشركات، من الحصول على معاملة تفضيلية من جانب الرئيس، بعدما قدم له هدية ذهبية في المكتب البيضاوي.
كما فرض ترامب التعريفات الجمركية على كافة الدول، ولا تساوي الاتفاقيات التجارية التي أبرمها مع أبرز الشركاء التجاريين، الورق الذي كُتِبَت عليه، ما يعود إلى حد كبير إلى أنها لم تُكتب من الأساس، كما تم استهداف دول بعينها، وفق أهواء ترامب الشخصية، ولنا أن نسأل المسؤولين في سويسرا، والبرازيل، والهند عن مزيد من التفاصيل.
كما أطاح الرئيس بمفوضة مكتب إحصاءات العمل، لأن أحدث بيانات للتوظيف لم تعجبه. وما زال ترامب يكيل الإهانات بحق جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ولم يخفف وطأة جهوده الرامية إلى إقالته إلا مُكرهاً.
أما آخر اختياراته للمنصب المؤقت (حتى الآن) في الفيدرالي، فكانت من نصيب المستشار ستيفن ميران، وهو المفكر الذي تفتقت عن ذهنه فكرة «اتفاق مارالاغو»، التي فقدت مصداقيتها على نطاق واسع.
وشارك في تأليف ورقة بحثية تدعو إلى «إصلاح جذري»، لأكثر المصارف المركزية أهمية على مستوى العالم. ليس ذلك فحسب، بل شدد على أن «أعضاء مجلس الإدارة وقادة الاحتياطي الفيدرالي، يجب أن يخضعوا لقرار الإقالة من جانب الرئيس». كما يجب ألا ننسى أن ترامب فتح الطريق أمام استثمار خطط المعاشات التقاعدية «401 كيه»، في الأصول المُشفرة.
من مقصورتنا في آلة الزمن هذه، كان من الضروري أن نتوقع أن صديقنا مدير الأموال، سيهرع حينها إلى التخارج من الأصول الخطرة، ويتجه إلى الأمان، بيد أن الواقع أبعد ما يكون عن ذلك، فالتقلبات ذات مستويات منخفضة، ومؤشرات الأسهم الأمريكية عند مستويات مرتفعة قياسية.
كما تستقر السندات الحكومية، ويتراجع الدولار الأمريكي بسلاسة. ولم يعد الخبير الاقتصادي بول كروغمان وحيداً في تساؤله: «لقد صارت السياسة جنونية، فلم لا تنخفض الأسهم؟».
ثمة تفسيرات كثيرة تطرح نفسها، في محاولة الرد على ما يحدث. ويتمثل أحد هذه التفسيرات، في أن السياسة الاقتصادية لترامب «رائعة في حقيقة الأمر.. وأن كل هذا اللغط المُثار حول عدم اليقين»، حسبما يقول ديفيد زيرفوس من «جيفريز»، هو «خدعة مُستوحاة سياسياً، ونشرتها حشود أهل الفكر في عالم الاقتصاد الكلي».
من النادر أن تقع المصارف الاستثمارية ومديرو الأصول، ضحية للبروباغندا اليسارية، لكن المتوترين يقترفون الأخطاء في بعض الأحيان.
هناك تفسير آخر، وهو أن كل الأنباء غير السارة مُتوقعة بالفعل. وفي عالم بديل، لا يوجد فيه ترامب، لم تكن الأسهم الأمريكية لتحقق مكاسب قدرها 9 % هذا العام، وإنما كانت لتحقق قفزة بنسبة 35 %، مثلما هو الحال بالنسبة للأسهم الألمانية، عند قياسها بالدولار.
والتفسير الثالث يتمثل في أن هذه المكاسب ليست منطقية، وأن الخبراء يشغلون أنفسهم بالتفاصيل المتعلقة بمن سيختاره ترامب رئيساً للفيدرالي، بعد انقضاء فترة باول، وما ستعنيه مواقفه المختلفة لمُختلف شرائح سوق السندات.
وها هم يفكرون في أن بيانات الوظائف الأمريكية، كانت مشكوكاً فيها لبعض الوقت. أي أنهم يفكرون في الأمور الصغيرة، ويغضون الطرف عن التهديد الوجودي، المتمثل في دمار المؤسسات الأمريكية، أو يواجهون صعوبة في تصوّر تداعياته على المدى الطويل على الأسواق قصيرة الأجل.
وقد جاءت أرباح الشركات إيجابية، ومن المُرجح أن تنخفض أسعار الفائدة على أي حال، لذا، سأستخدم هذه العبارة الخطيرة، سنظل نرقص، طالما أن الموسيقى ما زالت تُعزف.
إن العديد من المحللين والمستثمرين ينظرون إلى هدوء ظروف السوق، ويتجاهلونه، على اعتبار أنه نتيجة صيف تقليدي هادئ ودافئ. لكنني أميل إلى الشعور بقلق كبير ومتزايد، من أن المستثمرين يبدون وكأنهم ضفادع في إناء تعلو حرارته ببطء، وتغلي مياهه بالتدريج، فيما تمنح الأسواق الهادئة الرئيس الضوء الأخضر لكي يواصل تجاهله للأعراف، ودفعه المؤسسات إلى نقطة الانهيار.