تيج باريخ

قبل خمسين عاماً، كانت أصول الشركات المدرجة في مؤشر «إس آند بي 500» مادية في معظمها، وتشمل المصانع، والمعدات، والمخزونات، وغيرها.

أما اليوم، فتقدّر الدراسات أن الأصول غير الملموسة تمثل نحو 90% من إجمالي أصول المؤشر، وتشمل الملكية الفكرية، وقيمة العلامات التجارية، والبرمجيات، والمحتوى، والمواهب، والمعرفة.

وفي الولايات المتحدة، تجاوز الإنفاق على الأصول غير الملموسة ما تم إنفاقه على الأصول الملموسة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وظلت الفجوة بينهما تتسع منذ ذلك الحين، وفق بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية.

وتُعد الولايات المتحدة أكبر مستثمر في الأصول غير الملموسة بفارق كبير عن باقي الاقتصادات المشمولة في تقديرات المنظمة، إذ بلغت استثماراتها في العام الماضي 4.7 تريليونات دولار بالأسعار الجارية، أي ما يقارب ضعف إجمالي الاستثمارات المماثلة في فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان مجتمعة.

ولذلك، يمكن القول إن الولايات المتحدة أصبحت اقتصاداً تقوده الاستثمارات غير الملموسة.

وذكر كاي وو، مؤسس شركة «سباركلاين كابيتال»، التي طوّرت منهجية لقياس القيمة غير الملموسة على مستوى الشركات: «الأصول غير الملموسة قابلة للنمو بصورة أكبر، إذ تمتاز بتكاليف أولية ثابتة ولا توجد لها تكاليف هامشية.

وبمجرد الانتهاء من تطوير البرمجيات، فلن يكون إنتاج المزيد من الوحدات أو البرمجيات مُكلّفاً على الإطلاق.

كما أن عوامل التضافر الأكبر المترسخة في الأصول غير الملموسة تحفّز ديناميكية يحصد الفائز فيها كافة المنافع». ومثال على ذلك هو كيفية مساعدة نظام تشغيل «آي أو إس» ومتجر «آب ستور» وخدمات «آي كلاود» لشركة أبل على تعزيز هيمنة «آيفون».

وتفسّر هذه الأمور ديناميكية الأعمال الطاغية على الشركات الأمريكية اليوم، فقد تمكّنت الشركات السبّاقة من تحقيق نمو كبير، ويشكّل حجمها مانعاً تنافسياً، وبذلك، أصبحت هناك اليوم مجموعة ضئيلة من كبرى الشركات التي تقود قاطرة النمو في البلاد.

ولدى استخدامه عيّنة مُكوّنة من قرابة 900 شركة أمريكية بين عامي 2011 و2019، توصل معهد «ماكنزي» العالمي إلى أن 5% فقط من الشركات، التي تستحوذ على 23% من حصة التوظيف، تهيمن على نسبة 78% من النمو الإيجابي للإنتاجية.

ووجدت المنظمة العالمية للملكية الفكرية أن الأصول غير الملموسة تشكّل 90% من إجمالي القيمة المؤسسية لأكبر 15 شركة أمريكية، ما يزيد كثيراً مقارنة بقطاع الشركات الأمريكية الأوسع نطاقاً.

وينعكس هذا الأمر على سوق الأسهم، فحسب ما يشير أندرو لابثورن، الرئيس العالمي لقسم البحوث الكمية لدى «سوسيتيه جنرال»، فإن أبرز 19 سهماً فقط تمثل 40% من القيمة السوقية لمؤشر «إس آند بي» و33% من الأرباح التي يحققها.

وقد ازداد التركّز السوقي إلى هذه المستويات المرتفعة القياسية في أعقاب نمو حاد حققته هذه الشركات منذ منتصف العِقد الماضي، مدفوعاً بأسهم شركات التكنولوجيا التي يُطلق عليها مجموعة «الشركات الرائعة السبع».

وتشمل هذه المجموعة شركات أبل، وألفابيت، وأمازون، وميتا، ومايكروسوفت، التي تستفيد أصولها غير الملموسة، مثل البرمجيات، والخوارزميات، والمنصات الرقمية، من قدرتها على التوسّع وعوامل التضافر.

وتُستخدم هذه الأصول اليوم، بجانب البيانات والمهارات التي راكمتها هذه الشركات، في تعزيز تحوّلها إلى تطوير الذكاء الاصطناعي.

بهذه الطريقة، تسهم هيمنة الشركات الأمريكية القائمة على الأصول غير الملموسة في تفسير استثنائية الأسواق الأمريكية مقارنة ببقية العالم، ولا سيما على مدى العِقد الماضي.

ويرى محللون أن الاستثمارات الكبيرة التي ضختها كبرى شركات التكنولوجيا في مراكز البيانات لن تغيّر من الديناميكية السائدة بصورة ملحوظة، بما أن النفقات مُوجّهة إلى تطوير أصول هائلة غير ملموسة، تشمل الذكاء الاصطناعي، وتطبيقات جديدة، ومعرفة متأتية عن البيانات التي تعالجها.

ويعني هذا أن الصناعة ستظل غير ملموسة في جوهرها. وتسهم السردية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وهيمنة التكنولوجيا بصفة عامة، هي الأخرى في الصمود النسبي الذي يشهده مؤشر إس آند بي 500 في وجه زوبعة التعريفات الجمركية التي يثيرها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مقارنة بالأسواق الدولية.

وتجدر الإشارة إلى الصعوبة الكبيرة لفرض التعريفات الجمركية على القيمة المتحصّلة نتيجة أصول غير ملموسة. ومع ذلك، فإن الخطط التي تستهدف رفع رسوم الاستيراد على أشباه الموصلات من شأنها أن تخلّف تداعيات غير مباشرة.

وربما يكون تنامي الأصول غير الملموسة في مؤشر إس آند بي 500 عاملاً مُعززاً للتقلبات. فأولاً: وحسب ما يلفت ديفيد كوستين، كبير الخبراء الاستراتيجيين المتخصصين في الأسهم الأمريكية لدى «غولدمان ساكس»، في مذكرة بحثية له إلى أن المخاطر الفردية للشركات تسفر عن أن يكون المؤشر أكثر تقلّباً مقارنة بمحفظة أوسع نطاقاً وأكثر تنوعاً، في ضوء قيادة مجموعة ضئيلة من الشركات لمكاسبه.

وثانياً: تميل الاستثمارات غير الملموسة إلى أن تكون مُموّلة عن طريق أموال داخلية أو بواسطة أسهم؛ لصعوبة تقديمها كضمان للحصول على قروض. ومع ذلك، يمكن أن تصبح تقييمات هذه الأصول شديدة الحساسية على وجه الخصوص للتغيرات الفعلية وتلك المُتوقعة لمسار أسعار الفائدة.

وكثيراً ما تستقي الأصول غير الملموسة غالبية قيمتها الحالية من التدفقات النقدية المستقبلية المُحتملة. فعلى سبيل المثال، قد يولّد نموذج لغوي كبير يمكن تحقيق المكاسب منه عن طريق الاشتراكات أرباحاً مستقرة على مدى عدة أعوام. ويتغير معدل الخصومات المُطبق على الأرباح المستقبلية بدوره مع تغير التوقعات بشأن معدل الفائدة، وهو ما يحدث بصفة مستمرة رداً على البيانات الاقتصادية الصادرة.

ثالثاً: تُعد الأصول غير الملموسة أصعب في التقييم. ومثال على ذلك، يمكن لبراءة الاختراع أن تكون غير ذات قيمة بالمرة كما يمكن أن تساوي أخرى المليارات، لأن قيمتها تحددها عوامل تشمل القواعد التنظيمية، والمنافسة، واستيعاب السوق. ومن جديد، يمكن لعوامل فردية بالشركات أن تسفر عن تقلبات سريعة في القيمة.

وربما يسهم صعود الاقتصاد غير الملموس في تفسير التسعير الشبيه بالفقاعات الذي يشهده مؤشر إس آند بي 500 اليوم، وذلك مقارنة بالأساسيات الاقتصادية والميزانيات العمومية.

وفي الوقت الراهن، يُعد المؤشر شديد الارتفاع وفق المعايير التاريخية، استناداً إلى العديد من القياسات، تشمل نسب السعر إلى الأرباح والسعر السوقي للسهم إلى قيمته الدفترية.

وفي حين تتراكم الاستثمارات المادية على هيئة أصول في الميزانيات العمومية للشركات، إلا أن القواعد المحاسبية تؤدي في غالب الأمر إلى اعتبار الأصول غير الملموسة بنداً من المصروفات، ما لم يتم الاستحواذ عليها. ويعني هذا أن الشركات كثيفة الأصول غير الملموسة تبدو مرتفعة للغاية، وخاصة عندما تُقارن بقيمتها الدفترية والأرباح المُعلن عنها.

علاوة على ذلك، تتجاهل بيانات الناتج المحلي الإجمالي الكثير من الأصول غير الملموسة المهمة، بما في ذلك العلامات التجارية، والتدريب الذي يوفره أرباب الأعمال، ورأس المال المؤسسي، وابتكار المنتجات المالية، وبعض أشكال البحوث والتطوير.

وتشير تقديرات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، إلى أن الأصول غير الملموسة وغير الخاضعة للقياس تمثل ما يقرُب من 2.7 تريليون دولار وفق الأسعار الحالية بالولايات المتحدة، وربما كانت لتضيف ما يزيد عن 0.2 نقطة مئوية إلى متوسط نمو إنتاجية العمل في الولايات المتحدة بين عامي 2010 و2024 لو جرى احتسابها في بيانات الناتج المحلي الإجمالي.

وبالنسبة للأسهم الأمريكية، تتجه تقديرات كاي وو من سباركلاين كابيتال، إلى أن احتساب الأصول غير الملموسة كان سيقلل من التقييم المفرط المُتصوّر بما يتراوح بين 25% و50% مقارنة بمؤشرات التقييم الرئيسة.

وقال: في حين أن السوق ليست رخيصة بأي حال من الأحوال، إلا أن التقييمات ستبدو أقل ارتفاعاً مقارنة بما تشي به عناوين الأخبار بمجرد الاعتراف بالأصول غير الملموسة للشركات.

رغم ذلك كله، لا يزال مؤشر إس آند بي 500 متأثراً بالمضاربات، بما في ذلك الاعتقاد الراسخ في يومنا الحاضر بالمكاسب المستقبلية التي ستنتج عن الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى أوضاع السيولة، والسياسة الاقتصادية، والجوانب السياسة. ولا يعني هذا أيضاً أن التقييمات المرتفعة لمستويات تاريخية وتركّز السوق ليست عوامل تستحق التمحيص.

ومع ذلك، تمثل كيفية تأثير البرمجيات، والبيانات، والملكية الفكرية، على نمو وقيم الشركات عنصراً أساسياً في فهم الديناميكيات الاقتصادية والسوقية الحالية.

ويضفي هذا الأمر منطقاً اقتصادياً لتفوق أداء الأسهم الأمريكية، وهيمنة شركات التكنولوجيا، وتقييماتها شديدة الارتفاع.

وتسهم هذه الأمور أيضاً، على الأقل، في ألا تبدو سوق الأسهم الأمريكية المتفائلة غير منطقية قليلاً.