إدوارد لوس

مضى من عام 2025 أكثر من نصفه، لكن من الواضح -رغم كل شيء- أن الصين هي الرابح الأكبر حتى الآن، فحتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه لم يتوقف عن تقديم المكاسب لها بوتيرة منتظمة. 

ويبدو أن إعجاب ترامب المتزايد بشي جين بينغ يسوغ لمراقبين كثر الاعتقاد بأن ترامب يرغب -حتى دون أن يقصد- في استمرار انتصارات الصين.

وفي بيئة سياسية أمريكية يغلب عليها التشدد إزاء بكين من كلا الحزبين، يبدو أن ترامب هو أكثر من يتحلى بالتسامح تجاهها، خاصة أن صوته يظل الأعلى في واشنطن. ويضع هذا الاحترام من جانب ترامب الصين في مكانة استثنائية.

وقد اتهم زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر، ذات مرة، هنري كيسينغر بـ«الولع بالأعداء والضجر من الحلفاء»، وهو توصيف قد ينطبق على سلوك ترامب تجاه حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ الهندي.

وهذا ليس جديداً؛ فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت اليابان هي الخصم الأكبر في نظر ترامب، لا الاتحاد السوفيتي.

وحتى في المرات القليلة التي يحمل فيها الصين مسؤولية ما، فإنه يُرجع الخطأ إلى الشركات الأمريكية. وبحسب تعبيره «لو كنت مكان الصين، لكنت ملتهماً غداء أمريكا».

وينبغي هنا التوقف عند التداعيات الجيوسياسية للفترة الرئاسية الثانية لترامب، فمنذ بداية القرن الحالي، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى دعم جيران الصين، بيد أن ترامب يلغي كل هذه الجهود بسرعة مذهلة.

ومن بين هؤلاء الجيران، تعد الهند هي الحالة الأكثر إثارة للانتباه. فرئيس وزرائها، ناريندرا مودي، الرجل القوي ببلاده، آخذ في التودد إلى ترامب، لكنه لم يجنِ من الإطراءات أي شيء.

ففي الأسبوع الماضي، تعهد ترامب بفرض تعريفات جمركية قدرها 25 % على الهند، واتهم نيودلهي بتمويل الحرب الروسية على أوكرانيا عن طريق واردات النفط من روسيا، مشيراً لاحتمالية أن يعقب هذا فرضه تعريفات ثانوية «بنسبة 100 %».

لقد ظلت فكرة دعم هند قوية ومتوازنة أكثر الاستراتيجيات أهمية في مواجهة الولايات المتحدة للصين على مدى ربع القرن الماضي، لكن ترامب يدفع للشك فيما إذا كان هذا التوجه ما زال قائماً.

وبعد زعمه الخاطئ -وفق ما أعلنته الهند- أنه أوقف الحرب بين الهند وباكستان في مايو الماضي، ها هو ذا ترامب يشق طريقه نحو استمالة باكستان.

وفي اليوم ذاته الذي دعا فيه مودي إلى واشنطن في يونيو، تناول ترامب غداء خاصاً مع عاصم منير، قائد الجيش الباكستاني. لا يتشارك الرؤساء الأمريكيين وجبات خاصة مع قادة الجيوش الأجنبية، لكنه استثنى باكستان من هذه القاعدة.

أما مودي، فقد رفض دعوة ترامب بأدب. والآن، يتهكم ترامب على الهند بقوله: «إن لديها اقتصاداً ميتاً، وقد تضطر يوماً ما إلى استيراد النفط من باكستان». وهكذا ببساطة تخسر أصدقاءك وتضيع نفوذك.

وتوجد لدى تايوان هي الأخرى من الأسباب القوية ما يدعوها إلى القلق من تغير الظروف، شأنها شأن الهند؛ فقد فرض ترامب تعريفات جمركية بقيمة 20 % على أكبر مصدر لأشباه الموصلات على مستوى العالم، واتهمها باستغلال الولايات المتحدة.

والأسوأ، رفض ترامب السماح للرئيس التايواني، لاي تشينغ-تي، بالتوقف في نيويورك، خشية أن يثير ذلك حفيظة الصين.

وهنا، يحل قصر النظر التكتيكي بشأن تايوان محل نهج كيسينغر القائم على الغموض الاستراتيجي، وينطوي على أنه لا يمكن للصين أبداً أن تراهن على أن الولايات المتحدة لن تهب لنجدة تايوان، فترامب لديه القدرة على المقايضة على أمن تايوان لنيل تنازلات تجارية من جانب الصين.

لكن هل يقف وراء تصرفات ترامب أي منهج جيوسياسي؟ ليس هناك من منطق سوى أن ترامب يكن الاحترام لمجال نفوذ الصين، ويرغب في أن تحترم الصين مجال النفوذ الأمريكي، فكل مفترس كبير يحق له أن يتجول بمنطقة نفوذه في الغابة.

ويريد ترامب وضع يده على غرينلاند، وما زال طامعاً في قناة بنما؛ لأنه يرى الصين تغير على القطب الشمالي ونصف الكرة الغربي. لكنه في الوقت نفسه لا يبدي اهتماماً كبيراً بجيران الصين.

وقد قوبل الرئيس الفلبيني، فيرديناند ماركوس جونيور، بالتجاهل حينما اشتكى إلى ترامب أخيراً من أن الصين تغير النظام العالمي بصورة أحادية الجانب. ولم يكن من ترامب إلا أن قال: «نحن على وفاق مع الصين بصورة جيدة للغاية».

لذلك، هناك أسباب كثيرة تجعل شي جين بينغ يشعر بالامتنان تجاه ترامب، ولعل السببين الأكثر أهمية أن ترامب يتخلى أولاً عن الدور الأمريكي في الجنوب العالمي لمصلحة الصين، وقد كان تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وحرب ترامب على أفقر الدول الإفريقية وفي أمريكا اللاتينية من العوامل التي تدفع بهذه الدول إلى الاقتراب من أحضان الصين.

وثانياً، يترك ترامب المجال أمام الصين للفوز بالسباق الصناعي للطاقة النظيفة. كما أنه يخفف القيود التي وضعها جو بايدن على وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة.

وفي العام الماضي، رفعت الصين من قدرات الطاقة المتجددة لديها بصورة تتخطى ما أضافته بلدان العالم مجتمعة.

في المقابل ومنذ يناير، خفض ترامب الدعم الأمريكي المقدم للطاقة الخضراء في مقابل «احفر يا حبيبي، احفر» باعتبارها استراتيجية محورية لسياسة إدارته تجاه الوقود الأحفوري.

ولعل هذه العودة إلى المصادر الكربونية هي أكبر هدايا ترامب للصين. وهكذا تجري كتابة مستقبل العالم في الصين، وترامب نفسه يشارك في تأليف هذا المستقبل دون دراية منه.