يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نجاحاته في فرض اتفاقيات تجارية جديدة على دول العالم، واحدة تلو الأخرى، وفقاً لشروطه الخاصة، مستنداً إلى سياسة «العصا والجزرة».

فقد لوّح بحرمان الدول من النفاذ إلى السوق الأمريكية الهائلة، بينما طرح إمكانية التفاوض لتخفيف التهديدات الجمركية الضخمة التي أعلنها في الثاني من أبريل. وقد دفعت هذه الاستراتيجية عدداً من الدول إلى الرضوخ لمطالبه، من بينها بريطانيا واليابان وإندونيسيا والفلبين وفيتنام.

وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، ورغم ثقله الاقتصادي ونفوذه كمستورد رئيسي للخدمات الأمريكية، وامتلاكه الفرصة لتحقيق توازن في المفاوضات، فقد خضع في النهاية بدوره للضغوط الأمريكية.

ونجح ترامب في إبرام اتفاق مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، يقضي بفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 15 % على معظم الواردات القادمة من دول الاتحاد، بما في ذلك السيارات والأدوية وأشباه الموصلات.

في المقابل، لن تواجه الصادرات الأمريكية إلى أوروبا أي زيادات في التعريفات الجمركية بموجب الاتفاق، الذي يُلزم الاتحاد الأوروبي أيضاً بإنفاق مئات المليارات من الدولارات على واردات الطاقة والأسلحة الأمريكية، في مشهد يجسّد تماماً السيناريو المثالي الذي لطالما حلم به ترامب.

إن أوروبا لم تحصل سوى على تجنب فرض تعريفات أعلى، مع انقشاع نسبي لحالة عدم اليقين، إذ كان الرئيس الأمريكي قد لوّح بفرض رسوم بنسبة 30 % على الاتحاد إذا لم يتم التوصل لاتفاق قبل الأول من أغسطس.

وكان العزاء الوحيد للأوروبيين هو التوصل إلى اتفاق «صفر مقابل صفر» على إلغاء الرسوم الجمركية بين الجانبين على تجارة تبلغ قيمتها 70 مليار يورو.

وقد واجه الاتحاد الأوروبي تحديات جمة في تنسيق مواقف دوله السبع والعشرين خلال المفاوضات، خاصة بشأن الردود الانتقامية المحتملة، بينما لا يزال الغموض يسود حول المنتجات المشمولة بالاتفاق، حيث سعت فرنسا للحصول على إيضاحات حول أي إعفاءات، غير أن المسؤولين الأمريكيين أكدوا عدم وجود أي استثناءات.

ومع انقضاء الموعد النهائي للمفاوضات، أمس الجمعة، باتت صفقات ترامب تغطي أكثر من 60 % من الواردات الأمريكية المهددة بـ«تعريفات متبادلة»، ويبدو أن الرئيس قد اكتشف صيغة مضمونة لتحقيق مآربه، بدءاً بتقديم مطالب صادمة لإثارة حالة من الذعر، ثم التراجع للسماح بمفاوضات محددة بسقف زمني.

مستفيداً من وجود خليط من الشركاء التجاريين الضعفاء اقتصادياً أو المترددين في اتخاذ إجراءات انتقامية، أو المستعدين للمساومة، وانتهاءً بإبرام اتفاق بمستوى أقل من التهديد الأولي وتسويقه كانتصار مشترك.

ورغم التراجع الجزئي عن حزمة التعريفات «المتبادلة» المعلنة في الثاني من أبريل، إلا أن ذلك لا يعدو كونه مكسباً محدوداً، فمعدل التعريفات الفعلية لأكبر اقتصاد في العالم لا يزال في أعلى مستوياته منذ 90 عاماً، وسيرتفع أكثر إذا فرض ترامب تعريفات متبادلة كاملة على الدول التي لم تتوصل معه إلى اتفاقيات.

وقد أسهمت المخزونات القائمة، والتحرك المسبق استعداداً للتعريفات، واستيعاب الشركات للرسوم المرتفعة، في تخفيف الأثر الفوري لسياسات ترامب الحمائية.

ومع أن صندوق النقد الدولي رفع، الثلاثاء، توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي على المدى القريب، إلا أنه حذّر من أن حالة عدم اليقين في التجارة تجعل الاقتصاد العالمي يميل نحو الاتجاه السلبي. وبالفعل، ما لم يتم التراجع عن خطط ترامب أو تأجيلها مجدداً، فإن آثار الاحتكاكات التجارية المتزايدة ستنعكس بشكل أوضح على الاقتصادين الدولي والأمريكي.

ومهما كانت النتائج، تبقى الصفقات التي أبرمها ترامب غير راسخة، فالرئيس الأمريكي بأسلوبه التفاوضي العدائي أطاح بالنظام التجاري المبني على القواعد من خلال نسف الاتفاقيات التجارية العريقة وتقويض مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، الذي يُعد حجر الزاوية في التجارة الحرة.

ومن المتوقع أن تظل الاتفاقيات التي توصل إليها مفتوحة للتغيير في أي وقت، فيما يُعِد البيت الأبيض العدة لفرض تعريفات جمركية تستهدف قطاعات بعينها، ما سيلقي بأعباء إضافية على الصناعات الاستراتيجية.

لقد أدخل ترامب العالم في مرحلة تسودها مشاعر الذعر بدلاً من السياسة، كمحرّك رئيسي للنظام التجاري العالمي. وبينما يؤكد المتفاوضون مع إدارته أن التوصل إلى صفقات معه يتطلب قدراً كبيراً من البراغماتية، فإن ما تحقق من جانب أطراف يُفترض أن تكون قادرة على المواجهة، كالاتحاد الأوروبي، لم يكن سوى خضوع واضح أمام التنمّر.

وهكذا، فرغم نجاح أكبر كتلة تجارية في العالم في تجنب رسوم جمركية أشد وطأة، إلا أنها في المقابل منحت ختم الموافقة على النظام العالمي الجديد الذي يرسي دعائمه الرئيس الأمريكي.