روبرت أرمسترونج

تكشف حركة أسواق المال العالمية ثقة واضحة للمستثمرين على الرغم من المخاوف المتزايدة باندلاع الحروب التجارية. فقد حققت بورصات المكسيك والصين وأوروبا أداءً أفضل من مؤشر الأسهم الأمريكية الرئيس «إس أند بي 500» منذ يناير الماضي.

ونجحت هذه الأسواق في تجاوز تأثير تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية مرتفعة تصل إلى 25% على واردات بلاده من جيرانها المباشرين والصين.

وحتى السوق الكندي، الذي يعتمد اقتصاده بشكل كبير على التصدير للولايات المتحدة بنسبة 20% من ناتجه المحلي، تمكن من تحقيق مكاسب هذا العام على الرغم من أدائه الضعيف نسبياً.

وقد يشير ذلك إلى عدة أمور، أولها أن المستثمرين يبدو أنهم لا يأخذون تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية مرتفعة على محمل الجد كثيراً، أو أنهم يرون أن تأثيرها في ربح الشركات سيكون محدوداً.

كما قد يكون السوق قد استوعب التأثير السلبي المحتمل للرسوم في أسعار الأسهم منذ عدة أشهر، حين بدأت فرص فوز ترامب بالرئاسة في الارتفاع. لكن الأمر المؤكد هو عدم ظهور أي مؤشرات لصدمة للرسوم الجمركية المتوقعة في 2025 على أداء مؤشرات الأسواق الرئيسة.

غير أن الصورة قد تبدو مختلفة عند تحليل الشركات بشكل فردي. فلا يمكن الاكتفاء بمراقبة أداء الشركات العالمية التي تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكي في إيراداتها.

لأن الكثير من هذه الشركات إما تعمل في قطاع الخدمات أو تمتلك مصانع داخل الولايات المتحدة، ما يجعلها بمنأى عن تأثير الرسوم الجمركية. لذلك، يتطلب تقييم تأثير الرسوم الجمركية التركيز على مجموعة محددة من الشركات المعرضة فعلياً لهذه المخاطر.

وتقدم صناعة السيارات الأوروبية مثالاً واضحاً للشركات المعرضة لمخاطر الرسوم الجمركية، حيث تكشف بيانات بنك «مورغان ستانلي» أن السوق الأمريكي يمثل ربع مبيعات شركة «بورشه» التي تصنع سياراتها بالكامل في أوروبا.

كما تعتمد شركتا «بي إم دبليو» و«مرسيدس» على السوق الأمريكي بنسبة 15% من مبيعاتهما، مع تصنيع أكثر من نصف هذه السيارات خارج الولايات المتحدة.

يطرح جاكوب بوزارني، أحد كبار مديري الاستثمار في شركة «بريدجواي» لإدارة الأصول، تحليلاً مبتكراً لفهم الوضع الحالي.

فقد ابتكر نموذجاً يقيس أداء الأسواق العالمية عبر مصفوفة تجمع بين رأي الخبراء (متضمناً تعديلات المحللين لتوقعات الأرباح والتغيرات في المراكز الاستثمارية قصيرة الأجل) وأداء العوائد الفعلي.

وبينما تظهر معظم الأسواق علاقة متناسقة بين رأي الخبراء والأداء، تبرز بعض الأسواق كحالات استثنائية حيث يكون تقييم الخبراء إيجابياً بينما يظل الأداء متواضعاً.

وتكشف مصفوفته التي تغطي الفترة من أكتوبر وحتى نهاية يناير أن أسواق الصين والمكسيك وهونغ كونغ - وهي الأكثر تأثراً بتهديدات الرسوم الجمركية - تقع في هذه الفئة الاستثنائية.

ويفسر بوزارني هذه الظاهرة قائلاً: «يرى المحترفون فرصاً واعدة في الدول المتأثرة بالرسوم الجمركية، ولكن السوق لا يعكس هذا التفاؤل بعد. فبينما يعد الخبراء حديث ترامب عن الرسوم مجرد تكتيك تفاوضي، يظل السوق متحفظاً. وأعتقد بأن هذا التباين يخلق فرصاً استثمارية واعدة».

ومن غير الواضح ما إذا كان المستثمرون يعتقدون بأن تهديدات الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية مجرد مناورة سياسية، أم أنهم يرون أن تأثير هذه الرسوم، وحتى لو فُرضت، سيكون محدوداً في الاقتصاد العالمي.

لكن النتيجة واحدة: الأسواق لا تبدي قلقاً كبيراً حتى الآن. ويبقى السؤال الأهم: هل هذا الاطمئنان مبرر؟

من ناحية أخرى، يراهن وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت على دور محوري لأسعار الطاقة في خفض عوائد السندات الحكومية طويلة الأجل. وكشف في تصريحات نقلتها وكالة «بلومبرج» عن أهمية خاصة لأسعار الطاقة في تشكيل توقعات التضخم المستقبلية لدى الطبقة العاملة الأمريكية.

ويرى بيسنت أن نجاح الحكومة في خفض أسعار البنزين وزيت التدفئة سيحقق هدفين: توفير أموال المستهلكين في المدى القصير، وتعزيز تفاؤلهم بشأن المستقبل، ما يساعدهم على تجاوز آثار موجة التضخم المرتفع التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة.

وفسر وزير الخزانة سكوت بيسنت هذا الانخفاض المتواصل في العوائد في الأسابيع الأخيرة بأن المستثمرين في سوق السندات يتوقعون انخفاضاً في أسعار الطاقة في فترة رئاسة ترامب، ما سيتيح تحقيق نمو اقتصادي من دون ضغوط تضخمية.

وأوضح بيسنت أن هذا سيتحقق بخطة متكاملة تشمل خفض الإنفاق العام، وتقليص حجم الجهاز الحكومي، وتحسين كفاءته. وتوقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى دخول الاقتصاد الأمريكي دورة إيجابية لأسعار الفائدة.

ويخالف تحليل وزير الخزانة الأمريكي الرأي السائد بين الاقتصاديين، فالخبراء يستبعدون عادة أسعار الطاقة من حساباتهم للتضخم الأساسي لسببين: تقلبها الشديد، وضعف قدرتها على التنبؤ باتجاهات التضخم المستقبلية.

ويدعم موقفهم هذا أن الوزن المباشر لأسعار الطاقة في مؤشرات التضخم الرئيسة، مثل مؤشر أسعار المستهلك ومؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي، لا يتجاوز 10%.

وتتميز أسعار الطاقة بكونها الأكثر وضوحاً وتأثيراً في تصورات المواطن الأمريكي العادي عن التضخم، حيث يربط معظم الناس ارتفاع الأسعار بشكل مباشر بأسعار البنزين. ويدعم هذا التوجه وجود علاقة ارتباط تاريخية قوية بشكل لافت بين معدلات التضخم المتعادل وأسعار الطاقة.

وفي هذا السياق، يؤيد جوزيف لافورنيا، المحلل في مؤسسة «إس إم بي سي نيكو» للأوراق المالية، تحليل بيسنت. ويشير لافورنيا إلى أن أسعار الفائدة الحقيقية، التي تمثل النصف الآخر من معادلة عوائد سندات الخزانة، تتأثر بثلاثة عوامل رئيسة:

السياسة النقدية، وتوقعات النمو الاقتصادي، والعجز الحكومي المتوقع. وبناءً على ذلك، يرى أن تراجع أسعار النفط وانخفاض العجز المتوقع في الميزانية يمكن أن يدفعا أسعار الفائدة طويلة الأجل للانخفاض بشكل حاد إلى ما دون 4%، وذلك بغض النظر عن توجهات السياسة النقدية.

لكن هذا التحليل يغفل عاملاً ثالثاً مهماً يؤثر في كل من معدلات التضخم المتعادل وأسعار النفط وهو: النمو الاقتصادي، وخاصة مستويات الأجور والإنفاق الاستهلاكي، وتظهر البيانات التاريخية تطابقاً واضحاً في حركة النمو والتضخم المتعادل، كما أن النمو الاقتصادي يعد محدداً رئيساً لأسعار الطاقة.

لذا، من المرجح أن الارتباط القوي الملحوظ بين معدلات التضخم المتعادل وأسعار الطاقة يعد في جزء كبير منه علاقة ظاهرية مضللة، وبالتالي فإن استراتيجية استهداف أسعار الطاقة وحدها قد لا تكون فعالة في خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل. ومع ذلك، أقر بأن هذا التحليل يظل مجرد وجهة نظر غير مؤكدة.

وتستوقفني هنا ملاحظة مهمة: يجانب وزير الخزانة الصواب في تفسيره للانخفاض الأخير في عوائد السندات طويلة الأجل. فهو يرى أن السوق يتوقع انخفاضاً في أسعار الطاقة سيؤدي لتراجع التضخم، ولكن الواقع يظهر عكس ذلك تماماً.

فمعدل التضخم المتعادل في ارتفاع، وانخفاض العوائد يأتي فقط من تراجع أسعار الفائدة الحقيقية، ولكن من المهم التنويه إلى أن خطأ بيسنت في تشخيص الوضع الحالي لا يعني بالضرورة خطأ توقعاته لمستقبل العلاقة بين أسعار الطاقة والتضخم.