هنري فوي- مرسيدس رويل- لورا دوبوا- جو ليهي

تبذل الصين جهوداً مكثفة لتوسيع نفوذها داخل الأمم المتحدة، مستغلة ازدراء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتعددية الدولية، وفقاً لدبلوماسيين غربيين، فبعد أن تسبب تخفيض المساعدات الخارجية الأمريكية في أكبر عملية لإعادة الهيكلة في تاريخ الأمم المتحدة، منذ عقود، صعّدت الصين محاولاتها لملء الفراغ، خاصة في المركز الدبلوماسي السويسري في جنيف، حسبما أشار العديد من المسؤولين والدبلوماسيين.

وقد شمل ذلك زيادة الصين لعدد موظفيها، وبناء تحالفات تصويت، وفي بعض الحالات تقديم مساهمات مالية لترسيخ مكانتها في مدينة تُلقب بـ«مطبخ الدبلوماسية العالمية»، حيث تضم أكثر من 450 هيئة دولية.

ومن الوكالات التي تهتم بها الصين بصفة خاصة «الاتحاد الدولي للاتصالات»، الذي يضع المعايير العالمية للاتصالات، ومنظمة الصحة العالمية.

وقد دأبت بكين منذ فترة طويلة على تعزيز نفوذها في جنيف، ووسعت وجودها تدريجياً في عدد من وكالات الأمم المتحدة خلال العقد الماضي، خاصة في الوكالات المرتبطة بالتنمية والتكنولوجيا والمعايير الفنية، ورغم أن الصين تسهم بأكثر من 15% من الميزانية النظامية للأمم المتحدة، وهو ثاني أعلى تمويل بعد مساهمة الولايات المتحدة البالغة 22%، إلا أنها ما زالت ممثلة بشكل محدود نسبياً في الكادر الوظيفي.

وأظهرت دراسة أعدها شينغ هون لام من جامعة كاليفورنيا وكورتني جيه فونغ من جامعة ماكواري أن الصين كان لديها نحو 1600 موظف في الأمم المتحدة عام 2022، مقارنة بأكثر من 5000 من الولايات المتحدة.

وقال مسؤولون غربيون إنهم لاحظوا اندفاعة جديدة من جانب الصين منذ أن بدأت إدارة ترامب في سحب أمريكا تدريجياً من منظومة الأمم المتحدة، ما تسبب في أزمة مالية دفعت المنظمة إلى السعي لإجراء إصلاحات عميقة.

وقد أبدت الصين نشاطاً لافتاً في ما يتعلق بعملية إعادة الهيكلة المعروفة باسم «مبادرة الأمم المتحدة 80»، والتي قد تتضمن دمج بعض الإدارات وترشيد العمليات بشكل كبير، وقال لو شياويو، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بكين والمستشار السابق لدى الأمم المتحدة، إن الصين تؤيد إصلاحات «ضرورية ومنصفة» في إطار مبادرة «مبادرة الأمم المتحدة 80»، مشيراً إلى أن بكين تدعو إلى «تمثيل أقوى لدول الجنوب العالمي، واحترام السيادة الوطنية، ونظام متعدد الأطراف».

وعند سؤاله عن الاتهامات الموجهة إلى الصين باستغلال الإصلاحات لصالحها قال متحدث باسم الخارجية الصينية، إن بكين تدعم الأمم المتحدة «في الاستجابة للظروف والمهام الجديدة، وتعزيز التزام جميع الأطراف بالتعددية، وتحسين كفاءتها من خلال الإصلاح، وزيادة قدرتها على مواجهة التحديات العالمية، والاضطلاع بدور أكبر في الشؤون الدولية».

وأضاف المتحدث أن الإصلاحات «يجب أن تأخذ بجدية آراء الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خاصة الدول النامية، وأن تسهم في جعل الحوكمة العالمية أكثر عدلاً وإنصافاً».

وقال دبلوماسي أوروبي رفيع آخر إن الصين تقدم نفسها على أنها «وسيط نزيه» رداً على سياسة ترامب الخارجية المتعنتة في أحيان كثيرة، حتى تجاه حلفاء الولايات المتحدة. وتابع: «لديهم دول أفريقية عديدة ودول المحيطين الهندي والهادئ معهم، فهناك كثير من الأصوات».

ورداً على ذلك، قال مسؤولو الاتحاد الأوروبي إنهم بدؤوا التنسيق بشكل أوثق مع الحكومات الغربية الأخرى، في محاولة لشغل محل الولايات المتحدة في مهمة كانت تقوم بها عادة. وتم عقد اجتماعات بالفعل في جنيف وبروكسل خلال الأشهر الأخيرة.

وهذا العام، تعهدت الصين بتقديم 500 مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية على مدار 5 سنوات، ومن المتوقع أن يتضمن جزء من هذا التمويل الطوعي فرص إعارة للموظفين الفنيين والاستشاريين الصينيين.

وخلال اجتماع جمعية الصحة العالمية في جنيف، في مايو الماضي، أعرب نائب رئيس الوزراء الصيني ليو قوه تشونغ عن دعم بلاده للإصلاحات الداخلية في منظمة الصحة العالمية، متعهداً بتقديم دعم مالي وبشري من الصين.

وخلال الشهر الماضي، فازت الصين باستضافة «المؤتمر العالمي للاتصالات الراديوية» لعام 2027، وهو المنتدى الأهم التابع للاتحاد الدولي للاتصالات، ورغم أن الأمريكية دورين بوجدان-مارتن تترأس الاتحاد الدولي للاتصالات حالياً، إلا أن سلفها في المنصب كان الصيني هولين تشاو، وقال مسؤول في الاتحاد الأوروبي «إن المدير العام الآن أمريكي إلا أن الصين وضعت أشخاصاً مقربين منها، معظمهم أفارقة، في مناصب عليا، مثل المدير الحالي لمكتب التنمية».

ويتولى كوزماس لاكيزون زفازافا، الرئيس السابق لهيئة الاتصالات في زيمبابوي، إدارة «مكتب تنمية الاتصالات» التابع للاتحاد.

وبحسب المسؤول الأوروبي، فقد حصل زفازافا على دعم قوي من الصين، التي تربطها علاقات وثيقة بزيمبابوي، تشمل مشاريع بنى تحتية في قطاع الاتصالات تقودها شركة «هواوي».

وتحاول الصين الترويج لمبادرة «طريق الحرير الرقمي»، التي تهدف لتوسيع البنية التحتية الرقمية في الدول النامية، من خلال الاتحاد الدولي للاتصالات.

كما أشار دبلوماسيون إلى أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يعد ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لبكين، نظراً لانخراطه في مشاريع بنية تحتية تتماشى مع مبادرة «الحزام والطريق».

وقد صرح الاتحاد الدولي للاتصالات بأنه «يقدر بشدة المشاركة والدعم القويين» من الدول الأعضاء البالغ عددها 194 دولة، لكنه أضاف أنه لا يعلق «على القضايا السياسية أو الانتخابات، إذ تقع هذه المسائل ضمن اختصاص الدول الأعضاء حصراً».

وتعتمد بكين على علاقاتها القوية مع الدول النامية داخل منظومة الأمم المتحدة، خاصة من خلال مجموعة الـ77، وهو تحالف يضم 133 دولة من دول الجنوب العالمي، وترتبط كثير من هذه الدول بعلاقات تجارية أو اتفاقات بنية تحتية مع الصين، كما تركز بكين تمويلها على منظمات بعينها، مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، حيث رفعت مساهماتها من 100 ألف دولار عام 2017 إلى 4 ملايين دولار عام 2023.

وبالإضافة إلى جنيف، زادت الصين أيضاً وجودها في المناصب العليا بالأمم المتحدة هذا العام، ففي مايو ويونيو تم تعيين صينيين منسقين مقيمين، وهم كبار ممثلي الأمم المتحدة في أي بلد، في بوتسوانا والمالديف.

وكان أول تعيين لممثل صيني من هذا القبيل في عام 2020 فقط، في ناميبيا.

وخلال الأسبوع الماضي، حصلت الصين على منصب رفيع جديد بعد تعيين مواطن صيني مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة إلى القرن الأفريقي، خلفاً لمسؤول من غانا.

وفي ردها على أسئلة، قالت الأمم المتحدة: «إن جميع الدول الأعضاء تسعى للتأثير بشتى السبل الممكنة لدعم أهدافها داخل المنظمة.. وهذه ببساطة حقيقة واقعة».

وأضافت: «فيما يتعلق بتمثيل المسؤولين الصينيين في المناصب العليا داخل الأمم المتحدة فإننا نتوقع من جميع موظفي المنظمة أن يتصرفوا كموظفين دوليين لا كممثلين لحكوماتهم، وأن يتحلوا بالحياد الكامل في أداء مهامهم».