شهد، الأسبوع الماضي، تطوراً استثنائياً في واشنطن، التي تشهد عادة انقساماً سياسياً حاداً، حيث أقر الكونغرس الأمريكي، بأغلبية ساحقة من الحزبين، ما يعرف بـ«قانون جينيوس»، وهو التشريع الذي يضع إطاراً قانونياً لإصدار العملات المستقرة المقومة بالدولار الأمريكي من قبل جهات خاصة، وتمثل هذه العملات رموزاً رقمية قائمة على تقنية البلوك تشين، وتحمل قيمة نقدية ثابتة.

ويقرب هذا القانون الولايات المتحدة والعالم خطوة إضافية نحو الرقمنة الكاملة لأنظمة المدفوعات، سواء على المستوى المحلي أو عبر الحدود، كما يؤجج المنافسة حول الجهات التي ستهيمن على هذه الأنظمة والمخاطر المحتملة التي قد تشكلها على الاقتصاد الحقيقي.

ومهما كانت المواقف حياله فإن «قانون جينيوس» يمنح العملات المستقرة طابعاً تنظيمياً رسمياً، ما يمهد الطريق أمامها لتؤدي دوراً محورياً في مستقبل النظام النقدي العالمي.

وعلى غرار قانون «ميكا» الأوروبي المنظم لأسواق الأصول المشفرة يلزم القانون الأمريكي الجديد أن تكون العملات المستقرة مدعومة بالكامل باحتياطات آمنة، مثل النقد أو أذون الخزانة الأمريكية قصيرة الأجل.

كما يفرض القانون متطلبات رقابية واضحة تشمل الإشراف التنظيمي، وتقديم التقارير المالية الدورية، والامتثال لقوانين مكافحة غسل الأموال والعقوبات، ولا يجيز القانون تقديم خدمات العملات المستقرة داخل الولايات المتحدة إلا للشركات الأجنبية التي تلتزم بإطار تنظيمي مشابه لما هو مطبق محلياً.

تمثل هذه الضوابط خط دفاع - ولو محدوداً - ضد أسوأ المخاطر المحتملة، ومن المرجح، كما يطمح رعاة القانون، أن يسهم ذلك في تسريع وتيرة تبني العملات المستقرة المقومة بالدولار داخل الولايات المتحدة وخارجها، إذ إن منح هذه العملات موطئ قدم في النظام المالي الرسمي يعزز موقع «المصدرين الأمريكيين» في الصدارة للحفاظ على هيمنة الدولار في ساحة المدفوعات الدولية، غير أن التحول التكنولوجي الذي بات وشيكاً في قطاع المدفوعات لا يخلو من مخاطر، لأنه إذا نجحت العملات المستقرة فمن المرجح أن تضعف من نشاط البنوك التقليدية، بينما تخضع في الوقت ذاته لإطار تنظيمي أقل صرامة بكثير.

وتستحضر الذاكرة الأمريكية تجربة تاريخية مؤلمة في هذا الصدد، حيث اتسمت فترة «المصارف الحرة» في منتصف القرن التاسع عشر - التي جاءت نتيجة حملة الرئيس أندرو جاكسون الناجحة ضد إنشاء نواة بنك مركزي فيدرالي - باضطرابات نقدية عارمة، إذ أصدر كل بنك عملته النقدية الخاصة التي تتداول بأسعار صرف مختلفة.

وقد حذر «بنك التسويات الدولية» من تكرار هذا السيناريو مع الاتجاه نحو إصدار العملات المستقرة من قبل جهات خاصة متنافسة.

وقد يسهم «قانون جينيوس» والتشريعات المماثلة في تقليص هذه المخاطر، إلا أن الواقع يشير إلى أنه، كما هي الحال مع البنوك، لن يكون أمام الحكومات في نهاية المطاف من خيار سوى التدخل لضمان استقرار قيمة العملة حين تعصف بها الأزمات.

لهذا السبب تسعى بعض الدول، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والصين، إلى تطوير عملاتها الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، في نموذج يشبه العملات المستقرة الخاصة، والسبب الآخر هو الخوف من أن تُستخدم العملات المستقرة المقومة بالدولار في المدفوعات الدولية بما يشكل تهديداً لسيادة اقتصادات تلك الدول.

ومن المتوقع أن تجد منظومة الاستقرار المالي العالمي نفسها، قريباً، على شفا مواجهة محتدمة بين العملات المستقرة الخاصة المدعومة من الولايات المتحدة، في وقت يبحث فيه الكونغرس تشريعاً يحظر إصدار عملة رقمية للبنك المركزي الأمريكي، وبين اليورو الرقمي والرنمينبي الرقمي.

وتشكل العملات المستقرة، التي تُسوَق باعتبارها الواجهة الأكثر موثوقية في عالم الأصول المشفرة، نقطة انطلاق نحو أنشطة تنطوي على مخاطر أشد جسامة، فمجرد أنها تسهل عمليات الدخول والخروج من عالم العملات المشفرة بشكل عام هو أحد المحركات الرئيسة، وراء دعم هذا القطاع لها، كما يُناقش الكونغرس مشروع قانون ثالثاً يعرف باسم «قانون الوضوح»، يهدف إلى تمهيد الطريق أمام صناعة التشفير الأمريكية بأكملها،

ويقف وراء هذا الاندفاع الأمريكي نحو العملات المشفرة تحالف غير مقدس، يجمع بين المصلحة الجيواستراتيجية لتنمية قطاع تتصدر فيه الولايات المتحدة عالمياً والرغبة في جذب تدفقات رؤوس الأموال العالمية، وخفض تكاليف التمويل الحكومي، إلى جانب الترويج لمجموعة من مخططات الإثراء السريع، بما في ذلك تلك المرتبطة بعائلة ترامب نفسها.

إن رقمنة النقود باتت حتمية لا مفر منها، لكننا شهدنا مراراً كيف أن الابتكار المالي، حين يُترك دون ضوابط صارمة، يمكن أن يخلف وراءه دماراً هائلاً، ولقد حسمت الولايات المتحدة خيارها، وتحسن بقية دول العالم صنعاً إذا أمعنت النظر في المسارات البديلة المتاحة.