جانان جانيش

عندما قصف دونالد ترامب إيران الشهر الماضي، ثار البعض من أمثال تاكر كارلسون وستيف بانون. فالرئيس الذي انتقد المغامرات الأمريكية الفاشلة سابقاً بالشرق الأوسط أقدم على مغامرة أخرى، وكأنه الرئيس «بوش الثالث»، وليس من أصحاب شعار «أمريكا أولاً» (ماجا) والحالمين به.

كما ظهر شرخ آخر حول قضية جيفري إبستين، حيث يعتقد البعض في «عالم ماجا» أن إبستين، المدان بجرائم جنسية وانتحر عام 2019، كان يمتلك معلومات خطيرة عن شخصيات رفيعة المستوى، ربما كانت وراء مقتله.

وبعد أن غذّا ترامب هذه النظريات لسنوات، أصدر مؤخراً مذكرة تتناقض مع تلك المزاعم. واليوم، يريد من الناس أن يتجاوزوا الأمر ويمضوا قدماً. ولأن أتباعه متأكدون من أن هناك نخبة متعجرفة ومتحيزة لمصالحها الذاتية تعلو فوق القانون فإنهم لن يمتثلوا.

ليس من الواضح أي من هذين الانقسامين بين ترامب وأتباعه سيكون الأكبر هذا الصيف. فالرئيس يبدو وكأنه أصبح أكثر وداً تجاه أوكرانيا والناتو، كما أصبح ينتقد فلاديمير بوتين علانية.

ولا شك أن العديد من المعجبين بالكرملين في اليمين الأمريكي يتساءلون عما حدث للرجل الذي نصب فخاً لفولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي قبل بضعة أشهر.

مثل هذه المشاحنات ستمر، لكن كلاً منها يكشف حقيقة مهمة: ترامب و«ماجا» لم يعودا الشيء نفسه. فحركته، المتألفة من مفكرين ومانحين إضافة إلى قاعدة المؤيدين الأكثر حضوراً على الإنترنت، لديهم اعتقادات راسخة. أما هو فليس لديه سوى قناعة راسخة طوال عمره بأن إدارة عجز في الحساب الجاري مع دولة أخرى يشكل «خسارة».

وكل هذا لن ينال من ترامب، فهو يغطي على الخلافات بقوة الكاريزما، والنجاح الانتخابي، والتنفيذ الدؤوب للأولويات الأساسية لحركة «ماجا»، مثل التشكيك في اللقاحات وترديد أكاذيب عن الصحة العامة.

وهذا سيحميه من الانشقاق الداخلي الحاد حتى عام 2029، وهو الوقت الذي من يفترض أن يغادر فيه منصبه، أو على الأقل حتى انتخابات التجديد النصفي أواخر 2026.

وكارلسون وبانون لا يتحدثان باسم المشرعين، ولا مسؤولي الإدارة، أو أي من مراكز القوى التابعة للحزب الجمهوري. رغم ذلك، فقد أصبح بوسعنا حالياً رؤية ما سيؤول إليه مستقبل اليمين الأمريكي.

وما لم يجد الجمهوريون نسخة أخرى من ترامب، أي شخص تطغى نجوميته على كل التحفظات الفلسفية عنه، فإن الزعيم القادم سيكون أكثر انسجاماً مع الحركة. أي أكثر تديناً، وأكثر قومية، وأكثر ارتياباً.

بإمكان اليميني المتطرف أن يرضى بنصف رغيف تحت قيادة ترامب لأنه يقدم الكثير من الإبهار والقيادة، ولن تحصل على ذلك بالمرة من جيه دي فانس. بالتالي قد تعود اختبارات الأهلية الأيديولوجية وحتى الشخصية، التي تم التغاضي عنها مع ترامب.

بعبارة أخرى، البعض مضطرون إلى القبول بفكرة أن ترامب يمثل تأثيراً معتدلاً على حركة ستصبح أكثر عقائدية بكثير بمجرد رحيله عن منصبه. وهو يتعامل مع العالم عن طريق العلاقات الشخصية، وهي مرنة، وليس الأفكار، التي هي ليست كذلك.

ولننظر مثلاً إلى السياسة بشأن أوكرانيا. كان ترامب متساهلاً مع بوتين لأنه يقدر الإطراء الروسي المحسوب بدقة، ويستاء من التكلفة التي تتكبدها الولايات المتحدة في حماية أوروبا منه. وهذا ليس بجيد، لكنه ليس بعقائدي أيضاً.

ولكونه عملياً، يمكن أن تتغير وجهات نظر ترامب، ويبدو أن هذا ما يحدث حالياً. والأمر صحيح حتى إن كنت تعتقد أن سبب سلوكه هو امتلاك روسيا لمعلومات محرجة عنه. لكن من غير الواضح ما الذي قد يغير وجهات نظر فانس إذا ما أصبح رئيساً، أو حتى كارلسون، بشأن أوكرانيا.

وثمة ما هو أسوأ من تقديس الشخصية، وهو تقديس الأفكار. لعقد من الزمن كانت الأيديولوجيا المحافظة تتبعه وتتشكل من خلاله. وقد جعل هذا من الممكن اعتبار الصين تهديد القرن.

وفي الوقت نفسه الإعجاب بفيكتور أوربان، أكبر أصدقاء بكين في أوروبا؛ ومعارضة اللقاحات، دون معارضة الرئيس الذي أشرف على تطوير لقاح كوفيد؛ والنظر إلى أوكرانيا كمشكلة تخص منطقة أخرى.

بينما تعد إيران مصلحة أمريكية جوهرية. هذا التناقض الفكري الصارخ قد يبدو مربكاً، لكنه ربما يكون أفضل من الالتزام الصارم بعقيدة فكرية جامدة ومتسقة.

لقد كان التوافق بين ترامب والمحافظين المتشددين غريباً منذ البداية: رجل يعيش متحرراً، يقف إلى جانب جماعة لا تكف عن الوعظ والتشدد الأخلاقي، فترامب لا يشارك الحركة اهتمامها بمصير «الحضارة الغربية» وغير ذلك من الأفكار التجريدية الفخمة.

كما أن ترامب ليس متشدداً كبيراً تجاه الصين، فما يهتم به هو بيانات التجارة الثنائية، لا الاستراتيجية الكبرى، ولا حتى التنافس في القيم بين الجانبين.

وبعد كل ذلك، إليكم توقعاتي: سيعتبر الحراك المحافظ، ترامب، في العقد التالي أنه كان غير موفق، مثلما ينظر إلى جورج دبليو بوش على أنه كان متساهلاً إزاء الصين.

ومثلما ينظر إلى رونالد ريجان بأنه كان ساذجاً فيما يتعلق بمميزات التجارة الحرة. وسيتعرض المرشحون المحتملون لضغوط لإعلان كيف سيعملون على محو إرث ترامب الذي لم يكن جمهورياً إلا بالاسم فقط.

هناك عزاء وحيد لليبراليين المذعورين الذين يقرأون هذه الكلمات، وهي أن الحزب الجمهوري الأقل ميلاً نحو ترامب والأكثر اتباعاً لتوجهات «ماجا» سيكون أقل نجاحاً مع القاعدة الانتخابية. فترامب بإمكانه اتخاذ مواقف يمينية متطرفة دون أن يبدو غريباً، أو على الأقل بالنسبة لغالبية الناخبين. وهو يعرف أيضاً متى يكبح جماح الحركة. وفي مستقبل يعتبر فيه ترامب براجماتياً إلى حد ما، سيكون من الصعب معرفة ما إذا كان ينبغي على الليبراليين الخوف منه أم الرغبة فيه.