بن هول

«أخيراً نلتقي من جديد» - بهذه النبرة التي غلبت عليها مشاعر الحنين، افتتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كلمته، أمام الجلسة المشتركة للبرلمان البريطاني منذ أيام، مدشناً بذلك زيارته الرسمية للمملكة المتحدة، التي جاءت بعد انقطاع دام 17 عاماً، منذ آخر زيارة رسمية قام بها رئيس فرنسي - نيكولا ساركوزي - إلى بريطانيا.

وهي بذلك تعد أطول فترة انقطاع بين الزيارات الرسمية المتبادلة، منذ أن استقبل الملك جورج السادس، الرئيس فينسنت أوريول في محطة فيكتوريا، ورافقه في موكب رسمي باتجاه قصر باكنغهام.

ويكشف ذلك بوضوح، حجم الصدع الذي خلّفه «بريكست»، وما أعقبه من تجاهل متعمد للاتحاد الأوروبي من قادة حزب المحافظين البريطانيين، رغم أن العلاقات بدأت تشهد تحسناً ملحوظاً في عهد ريشي سوناك.

وشكّلت الزيارة بالنسبة لماكرون، لحظة مفصلية لتجاوز تداعيات «بريكست»، والاحتفاء بما وصفه مسؤولوه بـ «التقارب المتجدد» للمصالح المشتركة بين البلدين، إذ قال في خطابه، «إن تضامننا يتجاوز أي حدود مؤسسية».

بيد أن وسائل الإعلام البريطانية، سلطت الضوء على ما اعتبرته «استفزازاً» من ماكرون، حين حذر في خطابه بويستمنستر من «التبعية المفرطة للولايات المتحدة والصين»، مع أن هذا الموضوع ظل نقطة محورية في خطاباته لسنوات طويلة.

وتشير كل الدلائل إلى أن كثيرين يتشاركون مع ماكرون هواجسه بشأن تبعية أوروبا الاستراتيجية للولايات المتحدة، حيث أظهر استطلاع أجرته «فاينانشال تايمز» قبل أسبوعين، حول مدى التزام دونالد ترامب بالدفاع الجماعي في أوروبا، أن 6 % فقط من المشاركين يعتقدون بالتزامه، في حين رأى 78 % - أي أغلبية ساحقة - أنه لا يبدي أي اهتمام بهذا الشأن على الإطلاق.

وتتسم الزيارات الرسمية للرؤساء الفرنسيين والملوك البريطانيين، بطابعها الطقوسي الخاص: المراسم الاحتفالية، والإشارات المدروسة للتنافس التاريخي، والإشادات المتبادلة بتشرشل وغيره من الشخصيات التي تحظى بالتقدير المشترك، مع محاولات دائمة لإعادة تعريف مفهوم «الاتفاق الودي».

ورغم التباين المزاجي والسياسي الكبير بين براون وساركوزي، إلا أنهما تمكنا من بناء علاقة توافقية، مستفيدين من استعراض ساركوزي لميوله الأنجلوسكسونية، كوسيلة لإبراز الفارق بينه وبين سلفه الديغولي جاك شيراك.

وتوّج ساركوزي هذا المسار لاحقاً، بتوقيع معاهدة «لانكستر هاوس» مع ديفيد كاميرون، مدشناً مرحلة من التعاون الدفاعي العميق، بين أكبر قوتين عسكريتين في أوروبا، قبل أن تعصف «بريكست» بهذه العلاقة.

على مدى عقود، اصطبغت العلاقة بين قادة البلدين بعدم ثقة متجذر، فباريس لم تتخلَّ أبداً عن رؤية ديغول، التي اعتبرت المملكة المتحدة حصان طروادة للمصالح الأمريكية داخل أوروبا، بينما نظرت لندن مراراً إلى السياسة الفرنسية، على أنها مدفوعة بنزعة تضخيم الذات الفرنسية. وترى شرائح من الإعلام البريطاني والطبقة السياسية، بعضاً من بونابرت، في كل زعيم فرنسي، لذلك، استهلت صحيفة «التلغراف» تغطيتها للزيارة الرسمية بعنوان: «ماكرون المنتصر، يصل إلى القمة لقبول استسلام ستارمر في ملف بريكست».

ومن اللافت للنظر، أن ماكرون شعر بضرورة تأكيد أن الثقة قد تأسست الآن بين البلدين - وبينه شخصياً وبين السير كير ستارمر - وهو تصريح لا يمكن تخيل أن يقوله عن المستشار الألماني فريدريش ميرتس.

ومن المؤكد أن التركيز كان منصباً على نقاط الخلاف بين بريطانيا وفرنسا، لا سيما مشكلة الهجرة السرية عبر القنال الإنجليزي في قوارب صغيرة، غير أن «فاينانشال تايمز»، ترى أنه يتعين على البلدين ألا يسمحا بأن تُختزل علاقتهما في هذه القضية.

وفي ظل اندلاع الحرب على الأراضي الأوروبية، ومع تقويض ترامب للنظام الدولي القائم على القواعد، وانقلابه ضد حلفاء أمريكا، لم تشهد المصالح الجوهرية لبريطانيا وفرنسا تقارباً كما هي عليه اليوم.

وينبغي أن تتمحور علاقتهما خلال السنوات المقبلة، حول تعاون متنامٍ في المجال الدفاعي، إذ صرح ماكرون أمام أعضاء مجلسي العموم واللوردات، بأن بريطانيا وفرنسا - القوتين العسكريتين الأبرز في القارة، واللتين تمتلك كل منهما رادعاً نووياً - تتحملان «مسؤولية استثنائية» تجاه الأمن الأوروبي «وحان الوقت لترجمة هذه المسؤولية».

وكما كتب جانان غانيش في فايننشال تايمز: «على الأقل، في المدى المتوسط، يتوقف مصير أوروبا بقدر كبير على بريطانيا وفرنسا»، إذ سيستغرق الأمر وقتاً حتى تتحول خطط ألمانيا الطموحة للإنفاق الدفاعي، إلى قدرات قتالية حقيقية، وحتى بعد ذلك، يحتاج قادتها السياسيون إلى تطوير «ثقافة استراتيجية»، واستعداد لتوظيف القوة. أما بولندا، فهي تبني قوة عسكرية هائلة، لكنها تفتقر أيضاً إلى الخبرات الحديثة في خوض الحروب.

وكانت باريس وافقت مؤخراً على «تنسيق» رادعها النووي مع لندن، في حالات التهديد القصوى للأمن الأوروبي، في خطوة بارزة نحو توسيع نطاق «قوة الضربة» الفرنسية، لتشمل باقي القارة، في وقت تمتد فيه المظلة النووية البريطانية بالفعل، لتغطي جميع دول حلف الناتو. كما سيعمل البلدان على توسيع حجم «قوة المهام المشتركة» إلى 50 ألف جندي، وتعميق تعاونهما في مجال الصواريخ بعيدة المدى.

وستكون أوروبا أيضاً بحاجة ماسة إلى تضافر جهود لندن وباريس، لتنظيم عملية الانتقال التدريجي، بعيداً عن الاعتماد على القدرات العسكرية الأمريكية، مثل أنظمة الاستطلاع، والاستخبارات الفضائية، والنقل الجوي، وإعادة التزود بالوقود في الجو.

ويتعين على العواصم الأوروبية تحديد القدرات التي تحتاجها، وما إذا كان ينبغي شراؤها بشكل جماعي. وإذا تولى الاتحاد الأوروبي زمام المبادرة في تمويل هذا المشروع، الذي يمتد لجيل كامل، فقد يفتح ذلك الباب أمام تقارب أعمق مع المملكة المتحدة.

ويشير إيان بوند، في تحليل لمركز الإصلاح الأوروبي، إلى أن العواصم الأوروبية قد تجد نفسها مضطرة، عما قريب، لإعادة تصور ماهية الركيزة الأوروبية في حلف شمال الأطلسي، في ظل تراجع الدور الأمريكي أو انعدامه.

وقد دشنت فرنسا والمملكة المتحدة مساراً تاريخياً نحو سياسة أمنية ودفاعية أوروبية، من خلال اتفاقية «سان مالو» التاريخية عام 1998. ويؤكد بوند أن الاتحاد الأوروبي لا يملك لا العضوية المناسبة، ولا القدرات اللازمة، للاضطلاع بمسؤولية الدفاع الجماعي. وقد آن الأوان لابتكار نموذج جديد، وهو ما لن يتحقق، دون توافق فرنسي-بريطاني.