جون ثورن هيل

تعد حاضنة الأعمال «ستيشن إف» أكبر مجمع للشركات الناشئة في العالم، وتسودها أجواء من التفاؤل والطموح تخالف المزاج العام المتشائم السائد في معظم أنحاء فرنسا هذه الأيام. وقد نجحت الحاضنة، منذ افتتاحها في باريس عام 2017، في احتضان 7000 شركة ناشئة، برزت من بينها شركتان حققتا نجاحاً استثنائياً: الأولى هي شركة «هاجينج فيس» المختصة في تطوير حلول الذكاء الاصطناعي، والتي انتقل مقرها لاحقاً إلى الولايات المتحدة، والثانية هي شركة «آلان» التي تقدم خدمات مبتكرة في مجال التأمين الصحي.

ويكشف الحديث مع رواد الأعمال في مجال الذكاء الاصطناعي بحاضنة «ستيشن إف» عن حماس جارف تجاه مستقبل هذه التقنية الواعدة والمزايا التي تقدمها فرنسا للشركات الناشئة. فمن بين الـ40 شركة الأفضل في الحاضنة، هناك 34 منها طورت نماذج أعمال تعتمد في جوهرها على الذكاء الاصطناعي.

وقد عزز هذا التفاؤل، النجاح الاستثنائي الذي حققته شركة «ميسترال» الباريسية الناشئة، التي نجحت في تطوير نموذج أساسي يعد من أبرز نماذج الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، وهو ما رفع قيمتها السوقية إلى 6 مليارات دولار.

وقال كزافييه نيل، أحد أبرز المستثمرين الفرنسيين في كل من حاضنة «ستيشن إف» وشركة «ميسترال»، مؤخراً: «أوروبا قادرة اليوم على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي تنافس أفضل النماذج العالمية، وأعتقد أن استثمار بضع مئات من ملايين اليوروات يكفي لإنشاء مشاريع تقنية عملاقة».

ويشهد قطاع الشركات الناشئة في فرنسا نجاحات متتالية مدعومة بعدة عوامل رئيسية. أولها نظام تعليمي متميز يضخ باستمرار أعداداً كبيرة من المهندسين الموهوبين. وثانيها تحول باريس إلى منافس قوي للندن على لقب العاصمة الأوروبية للذكاء الاصطناعي. كما شهدت ثقافة الأعمال في فرنسا تحولاً جذرياً خلال العقدين الماضيين، حيث أصبحت ريادة الأعمال خياراً مقبولاً اجتماعياً، بل وأصبحت توجهاً عصرياً.

يضاف إلى ذلك توفر التمويل الاستثماري بمستويات غير مسبوقة. ورغم التحديات التي يواجهها في ملفات أخرى، قدم الرئيس إيمانويل ماكرون دعماً قوياً ومتواصلاً لهذا القطاع الحيوي.

وتتميز الشركات الفرنسية الناشئة في الذكاء الاصطناعي باتباعها نهجاً مختلفاً عن نظيراتها الأمريكية الكبرى، إذ تفضل تطوير نماذج مفتوحة المصدر تتيح مشاركة أوسع من المجتمع التقني وتسهل الوصول إلى هذه التقنية. ويراهن روادها على أن هذا النهج سيمنحهم ميزة تنافسية في توظيف الذكاء الاصطناعي بمختلف القطاعات الاقتصادية.

ويبقى السؤال: هل سيتمكن قطاع التكنولوجيا المزدهر في فرنسا من تجاوز تداعيات الاضطراب السياسي وحالة عدم اليقين الاقتصادي التي تلقي بظلالها على باقي أنحاء البلاد؟

يتمتع الجيل الجديد من رواد الأعمال الشباب في حاضنة «ستيشن إف» بثقة كبيرة في المستقبل، وهو ما أكده توماس لو كور، الرئيس التنفيذي لشركة «راكونو» المتخصصة في التقنيات التعليمية، والذي جمع في دراسته بين كلية «إتش إي سي» المرموقة للأعمال في باريس وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، بقوله: «تاريخياً، كان رواد الأعمال الفرنسيون يحققون نجاحات أكبر في تأسيس شركاتهم بالولايات المتحدة مقارنة بفرنسا نفسها، لكن هذا الوضع يتغير الآن»، مؤكداً: «لدي قناعة راسخة في مستقبل التقنية الأوروبية».

ويرى جويل بيلافا، الرئيس التنفيذي لشركة «بايوليفيت» المتخصصة في تطوير الأبحاث العلاجية باستخدام الذكاء الاصطناعي، أن فرنسا تمتلك ميزة تنافسية مهمة تتمثل في وفرة المواهب التقنية التي تتناسب بشكل مثالي مع متطلبات صناعة الذكاء الاصطناعي. ويقول: «نجحت فرنسا على مدى عقود في بناء ثقافة هندسية متميزة»، مشيراً إلى أن توظيف مهندسين بنفس المؤهلات في السوق الأمريكي شديد التنافس قد يكلف الشركات ما بين خمسة إلى ثمانية أضعاف التكلفة في فرنسا.

ورغم التقدم الكبير الذي حققه قطاع التقنية الفرنسي، لا تزال الولايات المتحدة تمارس قوة جذب هائلة على الشركات الناشئة. ويتجلى ذلك في إعلان شركة «باثواي» الباريسية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي الشهر الماضي عن قرارها نقل مقرها الرئيسي إلى الولايات المتحدة للتواجد قرب كبار عملائها. وتوضح زوزانا ستاميروفسكا، الشريكة المؤسسة للشركة، هذا القرار بقولها: «نحتاج إلى التواجد في المكان الذي تجري فيه الأحداث المهمة - وهو منطقة خليج سان فرانسيسكو».

وفي حين تتحرر الشركات البريطانية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي من القيود التنظيمية الأوروبية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تواجه نظيراتها الفرنسية تحدياً إضافياً يتمثل في الالتزام بمتطلبات قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي الصارم.

غير أن بعض رواد الأعمال يرون في هذه القيود التنظيمية فرصة لبناء الثقة وتحفيز الإبداع. ويؤكد صامويل بيسموت، الشريك المؤسس لشركة «كورما» المتخصصة في إدارة تراخيص البرمجيات، هذا التوجه بقوله: «لا ينبغي النظر إلى هذه القيود على أنها سلبية لأوروبا فقط، بل يمكن أن تكون دافعاً نحو ابتكارات أفضل».

ويمثل التفاؤل والطموح عنصرين أساسيين لا غنى عنهما لتحقيق النجاح. لكن قطاع التقنية الفرنسي، الذي استفاد من عوامل داعمة خلال السنوات القليلة الماضية، يجد نفسه اليوم في مواجهة تحديات أكثر صعوبة. وسيشكل العام الحالي اختباراً حاسماً وغير مسبوق لقدرة فرنسا على المنافسة في عالم ريادة الأعمال.