رنا فوروهار

تملكتني الدهشة طوال السنوات الأخيرة تجاه القدرة الاستثنائية للأسواق المالية على استيعاب أكثر المتغيرات السياسية والاقتصادية حدة وخطورة.

فقد تمكنت الأسواق، وبشكل مثير لكثير من الاستغراب، من تجاوز تداعيات تفشي الأوبئة العالمية، واندلاع الحروب، وتفكك النظام التجاري العالمي، فضلاً عن صعود التيارات القومية اليمينية والشعبوية اليسارية، دون أن تنال كل هذه الاضطرابات من الروح المعنوية التي تحرك المستثمرين في مختلف الأسواق.

وتنوعت التفسيرات لهذه الظاهرة اللافتة، بدءاً من استمرار أرباح الشركات عند مستويات مرتفعة، مروراً بالآمال المعقودة على الذكاء الاصطناعي، وصولاً إلى ما يُعرف بظاهرة «التاكو» – أي الرهان على أن ترامب دائماً ما يتراجع عن تهديداته.

لكنني أطرح تفسيراً مختلفاً: العالم لم يتبنَّ بعد سردية اقتصادية جديدة، وحتى يحدث ذلك، سنظل على الأرجح عالقين في حالة من الأسواق المضطربة.

وتاريخياً، اتسمت الاقتصادات السياسية بتشكلها عبر سرديات كبرى وشاملة، فقد انحسرت المركنتيلية (المذهب التجاري) في القرن الثامن عشر لتفسح المجال أمام نهج «عدم التدخل» في القرن التاسع عشر، والذي أفضى لاحقاً إلى ظهور الكينزية، التي تركز على دور كلا القطاعين العام والخاص في الاقتصاد، والتي تراجعت بدورها أمام الثورة التي قادها ريغان وتاتشر والحقبة النيوليبرالية التي تركز على تعزيز الأسواق الحرة.

واليوم، نفتقر إلى سردية موحدة تفسر الواقع أو تستشرف المستقبل، وذلك في ظل تعدد السرديات المتنافسة حول العولمة والتضخم وأسواق المال والسياسة والتكنولوجيا.

هذا التباين يُنتج ما يشبه «تأثير راشومون»، أو تلك الظاهرة النفسية حيث يروي عدة أشخاص حدثاً معيناً بطرق مختلفة ومتناقضة رغم أن كل رواية قد تبدو معقولة، أي أنه يتم تفسير البيانات والأحداث نفسها بطرق متناقضة من قبل مختلف أطراف السوق.

إننا نعلم جميعاً أن منظومة التجارة العالمية تشهد تحولات جذرية، فمنذ 2017، تقلصت التبادلات التجارية بين الشركاء المتباعدين جيوسياسياً، وأخذت الاقتصادات الرئيسة تنحو نحو «التجزؤ الجزري» - وفق توصيف شركة كيرني الاستشارية - من خلال تركيزها على تعزيز الاكتفاء الذاتي الوطني بدلاً من الاندماج في المنظومة العالمية.

ومع ذلك، وكما أفاد أحد المشاركين الآسيويين في ملتقى للرؤساء التنفيذيين حضرته قبل أسبوعين، فإن هذه التحولات «تجري على نطاق متدرج»، فإذا كنت متمركزاً في منطقة المحيط الهادئ، «ستلحظ مستويات من العولمة تفوق ما سبق، ومن المتوقع أن تزداد مستقبلاً».

وأظهرت دراسة حديثة لمؤسسة ماكينزي حول تحولات التجارة العالمية أن 16 من أكبر 50 ممراً تجارياً ستواصل النمو بقوة، حتى مع ارتفاع التعريفات الجمركية العالمية بنسبة 10%، وزيادة الرسوم على الصين وروسيا بنسبة 60%. وتشكل هذه الممرات شبكة متنامية من الروابط بين الاقتصادات الناشئة، من الهند إلى الشرق الأوسط.

وينعكس «تأثير راشومون» بوضوح على المؤسسات التجارية أيضاً، فرغم الأهمية القصوى للقطاع الذي تنتمي إليه الشركة، يبرز الحجم كعامل حاسم في تحديد مساراتها.

والاضطرابات التجارية الناجمة عن الرسوم الجمركية يمكن أن تتحول إلى ميزة إضافية تدفع المؤسسات العملاقة نحو مزيد من التفوق، لأنها تملك من الموارد ما يمكّنها من تحييد الآثار السلبية بكفاءة تفوق قدرات منافسيها الأصغر حجماً.

ويؤكد عدد من الرؤساء التنفيذيين وخبراء سلاسل التوريد أن التحسينات التي أجرتها المؤسسات الكبرى بعد الجائحة رفعت كفاءتها التشغيلية إلى حد يمكّنها من امتصاص نحو 80% من الضغوط التضخمية الناتجة عن التعريفات الجمركية.

في المقابل، تبدو الصورة مغايرة تماماً بالنسبة للاعبين الآخرين، حيث تشير تقديرات بنك «جيه بي مورغان» إلى أن التعريفات الجمركية التي أقرها دونالد ترامب ستكبد الشركات الأمريكية متوسطة الحجم خسائر تصل إلى 82 مليار دولار، ما يعادل 3% من إجمالي رواتب موظفيها، وهو ما سيفضي على الأرجح إلى موجة تسريحات وتراجع حاد في الهوامش الربحية.

وفي الوقت ذاته، تتزايد مخاوف الاقتصاديين من أن قطاعاً واسعاً من الشركات الصغيرة سيواجه شبح الإفلاس والاندثار.

وفي حال تحقق هذا السيناريو - وهو أمر بدأ مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي الإقليميون رصده - فسيترتب عليه تداعيات غير متكافئة على مستويات التوظيف وأنماط توزيع الثروة في المناطق الريفية والمدن الصغيرة التي تفتقر أصلاً إلى وجود شركات كبرى. وهذا من شأنه تعميق «ظاهرة النجوم الفائقة» الجغرافية، حيث تزدهر أوضاع سكان المدن الكبرى العاملين في المؤسسات العملاقة، بينما تتدهور أحوال أصحاب المشاريع الصغيرة والعاملين في المناطق الأقل كثافة سكانية.

ويشكل هذا الانقسام المتنامي وقوداً للاضطرابات السياسية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى.

ففي المشهد الأمريكي الراهن، نشهد صعوداً متزامناً للشعبوية اليمينية واليسارية؛ فبينما ينحاز المواطنون المتضررون في الولايات «الحمراء» لصالح حركة «ماغا»، نجد الليبراليين الشباب الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الإيجار في نيويورك يدعمون زهران ممداني، المرشح الاشتراكي الديمقراطي الذي قد يتولى منصب عمدة نيويورك المقبل.

وأتوقع أن تتكرر هذه المعادلة في الانتخابات الرئاسية لعام 2028 إذا اتجه الحزب الديمقراطي نحو اختيار مرشح ذي توجهات شعبوية اقتصادية - وهو خيار تدعمه وقائع فشل الوسطيين، بمن فيهم كامالا هاريس.

غير أن هذه الديناميكية ستفضي حتماً إلى مزيد من الضبابية وانعدام اليقين بشأن مستقبل المشهد السياسي الأمريكي.

وكشف استطلاع أجراه بنك دويتشه مؤخراً عن انقسام حاد بين المستثمرين حول مستقبل الاستثنائية الأمريكية، فقد أبدى 44% منهم تفاؤلاً، معتقدين أنه في نهاية المطاف لن تتمكن أي دولة أخرى من مجاراة الولايات المتحدة في معدلات النمو والحيوية الاقتصادية، رغم التحديات الراهنة.

في المقابل، يرى 49% أن المكانة الأمريكية العالمية ستشهد تراجعاً تدريجياً خلال السنوات القادمة.

كما أبدى 78% من المستثمرين تفضيلهم الاحتفاظ باليورو على حساب الدولار خلال العام المقبل، بينما تساوت النسبة (50/50) على مدى خمس سنوات.

وإذا كانت كل هذه العوامل لا تكفي لإثارة حالة عدم اليقين، فإن الذكاء الاصطناعي يضيف بُعداً آخر للمشهد المعقد، إذ هل ستؤدي هذه التقنية الثورية إلى تعزيز الإنتاجية والحفاظ على مستويات مرتفعة من الأرباح وقيم الأسهم أم ستتسبب في إزاحة أعداد هائلة من الوظائف بوتيرة متسارعة، ما سيفضي إلى تفاقم معدلات البطالة وتأجيج ردود الفعل الشعبوية أم أن تأثيرها سيكون مغايراً تماماً لكلا السيناريوهين؟ وأي الدول والشركات ستخرج منتصرة من هذا السباق؟ وهل نمتلك أصلاً القدرة على تحمل متطلباتها الهائلة من الطاقة والموارد المائية؟

لا تلوح في الأفق إجابات قاطعة لأي من هذه التساؤلات المحورية.

وفي الحقيقة، لم أشهد طوال مسيرتي المهنية هذا الكم الهائل من المتغيرات المؤثرة في الأسواق التي تعمل في آن واحد وبهذا التشابك المعقد.

وإن كانت الأسواق لم تعكس بعد هذه التعقيدات في سلوكها، فهذا لا يعني بالضرورة أنها ستظل بمنأى عن تأثيراتها إلى الأبد.