ريتشارد ميلن

تعد سفن الحاويات من أكبر وأثقل السفن في البحار، لكن تسيير خط شحن حاويات بات مؤخراً يُشبه الإبحار بقارب صيد في خضم عاصفة عاتية.

وتمثلت هذه العواصف في الرسوم الجمركية المتقلبة، التي يفرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والاختناقات في الموانئ، والحرب بين إسرائيل وإيران، وتهديدات الحوثيين في اليمن بإغلاق البحر الأحمر، ناهيك عن الآثار الممتدة للاضطرابات، التي سببها تفشي جائحة «كوفيد 19».

ويقول سيمون هيني، كبير مديري أبحاث الحاويات بشركة الاستشارات البحرية «دروري»: «من المفترض أن تكون سلاسل التوريد مستقرة، ويمكن التنبؤ بها».

ويحل الموعد النهائي الأخير لتطبيق رسوم ترامب الجمركية بعد أيام في التاسع من يوليو، لكن قليلين فقط في صناعة شحن الحاويات، التي يُنظر إليها كونها مؤشر على التجارة والعولمة نظراً لحجم البضائع الهائل، الذي يتم نقله عبر البحار، يعتقدون أن هذا سيكون الفصل الأخير.

ويوضح أحد كبار التنفيذيين في شركة شحن بالحاويات قائلاً: «إن حالة عدم اليقين المرتبطة بالرسوم الجمركية تجعل الأمور أكثر صعوبة للعملاء. هم الآن يطلبون كميات كبيرة قدر الإمكان، لأنهم لا يعرفون ما الذي سيحدث لاحقاً هذا العام، وقد أضاف ذلك طبقة جديدة كاملة من التعقيد إلى سلاسل التوريد».

وشهدت كل من أسعار الشحن وأسهم شركات الشحن المدرجة في البورصات مثل «إيه بي مولر ميرسك» الدنماركية و«هاباغ-لويد» الألمانية تقلبات شديدة خلال الشهور الأخيرة، بالتزامن مع تذبذب مؤشر المخاوف بشأن زيادة العرض أو الطلب.

لكن تطرح الآن تساؤلات حول ما إذا كان القطاع قد أصبح يعتمد بشكل مفرط على الاضطرابات مصدراً للربحية، بما قد يهيّئه لمشاكل أكبر حين تعود الأوضاع إلى طبيعتها.

وفي الخلفية يلوح سؤال فلسفي أعمق: كيف يمكن لقطاع بُني على العولمة واستفاد منها أن ينجو في حال انقلب أبرز المدافعين عنها عليه؟

وحققت شركات الشحن البحري أرباحاً غير مسبوقة بعد الموجة الأولى من جائحة «كوفيد»، فقد قدّرت «دروري» أن القطاع حقق خلال الفترة من عام 2020 وحتى 2022 أرباحاً تفوق ما جناه خلال الستين عاماً السابقة مجتمعة، وقد أعيد استثمار جزء كبير من تلك الأرباح في شراء سفن جديدة، لا سيما من قبل اللاعب الأكبر حالياً في القطاع، شركة البحر الأبيض المتوسط للشحن.

ومنذ ذلك الحين تتوالى التحذيرات من حدوث فائض وشيك في الطاقة الاستيعابية، لكن سلسلة من الأحداث غير المتوقعة حالت دون لحظة الحقيقة. ويقول سيمون هيني، إن عدداً قياسياً من سفن الحاويات قيد الطلب حالياً - بما يعادل نحو 30% من الأسطول العامل حالياً- لكن شركات الشحن لا تُخرج عادة سفنها القديمة من الخدمة مع وصول السفن الجديدة.

ويضيف: «دفتر الطلبات يمثل خطراً كبيراً على القطاع. يبدو أنهم يعتمدون على استمرار الاضطرابات، لكن حين تعود السوق إلى طبيعتها فإنهم سيقعون في ورطة حقيقية، بسبب الطاقة الفائضة الكبيرة التي ستبقى لديهم».

وقد يراهن البعض في القطاع على أن ترامب سيتسبب بالمزيد من الاضطرابات، فبعد ولايته الأولى لجأت العديد من الشركات إلى تنويع سلاسل التوريد بعيداً عن الصين باتجاه دول جنوب شرق آسيا مثل فيتنام وكمبوديا وتايلاند.

لكن تلك الترتيبات قد تتعرّض لضربة بفعل الرسوم الجمركية القاسية، التي يهدد الرئيس الأمريكي بفرضها. ويقول أحد كبار المصنّعين في أوروبا: «من الصعب اتخاذ أي قرارات استراتيجية كبرى بشأن سلاسل التوريد حالياً».

ويعلق هيني على المزاج السائد قائلاً: «هناك شعور بالإرهاق والإنهاك من موضوع الرسوم الجمركية، فلا يوجد أي قرار يتسم بطابع دائم، خاصة مع تنقلنا من مهلة مؤقتة إلى أخرى».

وفي المقابل، يشعر رؤساء شركات الشحن البحري بشيء من الحصانة تجاه الهجوم الأوسع لترامب على العولمة وسعيه لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، وذلك بفضل تشعب سلاسل التوريد الراهنة وتشابكها.

وفي هذا السياق قال فينسنت كليرك، الرئيس التنفيذي لشركة «ميرسك»، في مقابلة مع «فايننشال تايمز»، إن الأمر سيستغرق من ترامب «عقداً أو عقدين من الجهد المتواصل» لإعادة رسم طرق التجارة العالمية.

ويعتقد كثيرون أن الصين والهند ستقودان عصراً جديداً من العولمة، ويقول أحد التنفيذيين في قطاع الحاويات: «قد تكون هذه هي العولمة بنسختها الثانية، في الوقت الذي نقوم فيه بتقليص مخاطر العولمة الأولى».

وفي الوقت الراهن ورغم كل الاضطرابات والانتقادات، التي تطال شركات الشحن بشأن ارتفاع أسعار الشحن ومستويات الربحية، تظهر بعض المؤشرات على أن النظام يعمل، فقد بدأت الأسعار بين الصين والولايات المتحدة في التراجع بوتيرة قياسية، بعدما رفعت الشركات الطاقة الاستيعابية استجابة للطلب المتزايد، الذي سبّبه ما يُعرف بـ«يوم التحرير»، الذي أعلن عنه ترامب.

ويقول هيني: «هذا مؤشر جيد على أن القطاع يتفاعل، وأن هناك منافسة»، لكن مع ذلك تلوح في الأفق مشاكل أكبر، ومن المرجح أن يواصل قطاع الشحن بالحاويات الإبحار وسط أمواج متلاطمة لبعض الوقت.