آندي هالدان

بات عالمنا اليوم أكثر تنوعاً وتشابكاً من أي وقت مضى - اقتصادياً وثقافياً وعرقياً.. وكذلك بين الأجيال المختلفة. ويعود ذلك إلى حد كبير إلى الانفجار الذي حدث بعد الحرب في تدفقات السلع والأموال والأشخاص والمعلومات عبر الحدود.

وخلال معظم تلك الفترة، كانت فوائد العولمة أمراً مفروغاً منه، وحصلت على دعم شعبي وسياسي واسع النطاق. لكن يبدو أن تلك الأيام قد ولّت، بل أصبح السؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت زيادة الانفتاح الاقتصادي والتواصل هي مصدر للهشاشة، وليس الازدهار اقتصادياً ومجتمعياً! وهذه نقطة اختلاف رئيسة بين التقدميين (الذين يؤكدون على الفوائد)، والشعبويين (الذين يؤكدون على الهشاشة). وكلاهما لديه ما يدعم وجهة نظره. فلا يوجد نظام بيئي على هذا الكوكب، لا يتم إثرائه بالتنوع المتزايد.

وزيادة تعقيد الغابات المطيرة والمحيطات، يفسر الوفرة المتاحة. وفي الأنظمة الاجتماعية، كان التلاقح بين الأفكار والثقافات والممارسات في المجتمعات المتنوعة، محركاً للابتكار والديناميكية لآلاف السنين. ومع ذلك، فهذا سلاح ذو حدين.

وعلى سبيل المثال، تواجه الغابات المطيرة أو المحيطات وافدين عدائيين، مثل البشر الذين يبحثون عن الأخشاب أو الأسماك. وإذا تصادمت الثقافات بدلاً من أن تتماسك، فإن المجتمعات المتنوعة تظهر هشاشة مماثلة. ويحتاج كل نظام معقد إلى التوازن. ومن الممكن تحسينه من خلال تعزيز العلاقات والثقة ــ وهو ما يسميه عالم السياسة روبرت بوتنام من جامعة هارفارد «رأس المال الاجتماعي».

لقد كان استنزاف رأس المال الاجتماعي على مدى نصف القرن الماضي، والذي وثقه بوتنام، سبباً في ترجيح كفة الميزان بقوة نحو الهشاشة. لذلك، لا نرى في الاقتصادات المفتوحة والمترابطة اليوم، سوى مجتمعات هشة ومنفصلة. ولا يمكن لأي منهما أن يزدهر بهذه الطريقة.

وتتمثل إحدى الاستجابات السياسية الشائعة الآن، في عكس المسار الاقتصادي، وتشديد القيود على تدفقات الأشخاص والسلع والتكنولوجيات والمعلومات عبر الحدود، رغم أن خبراء الاقتصاد يخبروننا بأن القيام بذلك من شأنه أن يؤدي إلى تقليص الديناميكية الاقتصادية. لكن نظراً لأن هذه السياسات تعالج مشاعر عدم الأمان التي تسيطر على كثيرين، فإنه ليس من المستغرب أن تكتسب هذه السياسات الكثير من الدعم ــ خاصة في ما يتصل بالهجرة والتجارة. في المقابل، هناك طريقة أخرى، ربما تكون أقل تكلفة، وأقل تطبيقاً بكل تأكيد ــ لتحقيق الغاية نفسها: تعزيز السياسات الاجتماعية، بدلاً من تقليص السياسة الاقتصادية. ومن الممكن أن يصبح رأس المال الاجتماعي خيطاً ذهبياً، يتم نسجه في مختلف جوانب السياسات العامة، من الصحة إلى الإسكان، ومن التعليم إلى تطوير المناطق.

هناك بالفعل العديد من المنظمات التي تتبنى برامج لبناء التماسك الاجتماعي، والحد من السلوك المعادي للمجتمع. وقد اقترح السيناتور الأمريكي كريس ميرفي استراتيجية وطنية للتواصل الاجتماعي.

لكن للأسف لم تضع أي دولة حتى الآن برنامجاً وطنياً شاملاً للتماسك الاجتماعي، يتمتع بطموح يتناسب مع التحدي الماثل الكبير. ويعد وجود خريطة أفضل للمناطق، أمراً بالغ الأهمية - ففي كثير من الأحيان، يتم اتخاذ الإجراءات السياسية في الظلام، وتكون البيانات المتعلقة برأس المال الاجتماعي غير مكتملة.

لذلك، فالمطلوب أولاً هو مجموعة جديدة من الحسابات القومية، تركز على رأس المال الاجتماعي. ويقدم بحث حديث أجراه راج شيتي، الذي طور خرائط دقيقة للغاية لرأس المال الاجتماعي، لمحة عما هو ممكن في هذا المجال.

ومن الأفضل تماماً إقامة الروابط الاجتماعية في وقت مبكر من الحياة، فكما يُظهِر العمل البحثي الذي أجراه شيتي وآخرون، فإن الشبكات التي تشكلت في مرحلة الشباب، هي المفتاح لفتح باب الحراك التصاعدي، لكن المشكلة أن أنظمة التعليم الحالية لدينا، هي في أغلب الأحيان وصفة للتقسيم الطبقي الاجتماعي، وليس الاختلاط.

ويدعو ذلك إلى إعادة تفكير جذري في المناهج والأنشطة اللامنهجية، ومعايير الوصول إلى التعليم، لجعل التواصل الاجتماعي في المقدمة، لا أن يتم تأخيره إلى مرحلة لاحقة. كذلك، فقد ساهم الزحف العمراني غير المخطط بشكل جيد في «بلقنة» المجتمعات. لذلك، فإنه في المستقبل، ينبغي أن يكون التماسك الاجتماعي في قلب عمليات التخطيط المكاني.

وفي هذا السياق، اقترح ريتشارد سينيت الأستاذ بكلية لندن للاقتصاد، إسكاناً اجتماعياً، يربط المجتمعات المنفصلة، من خلال مساكن مختلطة، ومساحات مشتركة، ومجال عام محسّن. وهناك بالفعل أمثلة ناجحة في اليابان والدول الإسكندنافية وأماكن أخرى.

وينبغي أن يتم بناء رأس المال الاجتماعي على أساس بنية تحتية اجتماعية قوية - المؤسسات الدينية، ونوادي الشباب، والمراكز المجتمعية، والحدائق، والمرافق الرياضية والترفيهية، والمكتبات والمتاحف.

وما نلاحظه الآن، هو أن الاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية ضئيل، مقارنة بالبنية التحتية المادية والرقمية. وقد تأخرت كثيراً عملية إعادة ترتيب الأولويات وإعادة الاستثمار. وإذا أردنا إعادة بناء ثقة المواطنين، فإن الأمر يتطلب أيضاً نماذج جديدة للحوكمة. وتعتبر لجان المواطنين وما شابهها فعالة في بناء الثقة والتماسك في المجتمعات المتنوعة، لكن ينظر إليها على أنها بعيدة كل البعد عن التيار الديمقراطي السائد.

وبالعودة إلى النموذج اليوناني الأصلي للديمقراطية، من الممكن أن تلعب التحالفات التي يقودها المجتمع المحلي دوراً مركزياً على مستوى المناطق المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تعد وسائل الإعلام الرئيسة، ووسائل التواصل الاجتماعي، قناة رئيسة للتواصل، لكنها للأسف، وبشكل متزايد، تحولت إلى وسيلة للانقسام الاجتماعي. لذلك، تقوم العديد من الدول بوضع تشريعات لتجنب الأضرار التي يمكن أن تتفاقم عبر الإنترنت.

وهناك بالفعل حاجة ماسة إلى بذل الكثير من الجهود لدعم الخير عبر الإنترنت، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز التماسك الاجتماعي. ولهيئات البث والجهات التنظيمية العامة، دور حيوي في القيام بذلك. وأخيراً، ينبغي أن يكون هناك مكتب تابع للرؤساء أو رؤساء الوزراء، مكلف بتعزيز التماسك الاجتماعي من خلال السياسات، وأن يكون ذلك راسخاً في آلية الحكومات.

وفي كتابه «الارتقاء»، أظهر روبرت بوتنام، كيف تم بناء رأس المال الاجتماعي في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يتم استنفاده خلال النصف الثاني. ويمكننا أن نكرر مثل هذه النجاحات، من خلال البرامج الوطنية الشاملة للتماسك الاجتماعي، التي تعالج بشكل مباشر حالات عدم الأمان التي يشعر بها الكثيرون. وهذا من شأنه أن يقود إلى تحول حاسم في الرأسمالية نفسها - نحو «رأسمالية اجتماعية»، قادرة على سد الفجوة بين المجتمعات المنفصلة، والتقدميين والشعبويين.