روبرت أرمسترونغ
بعد قصف الولايات المتحدة للمنشآت النووية الإيرانية قال كثيرون: إن «نظرية «التاكو» – أي أن «ترامب دائماً يتراجع» – لم تعد صالحة، أو ربما لم تكن صحيحة أصلاً. وبعض هؤلاء لم يُخفِ عداءه لي، وكتب تعليقات جارحة ضدي على الإنترنت». في المقابل، رأى آخرون أن هذا المصطلح لعب فعلياً دوراً في دفع ترامب لاتخاذ قرار القصف، وتراوحت تعليقاتهم بين المزاح، والمزاح الجاد، والجد المحض.
وأنا فعلياً لا أصدقُ ذلك، ففي أحسن الأحوال، كان المصطلح مجرد تسمية لظاهرة واقعية كان الجميع يلاحظونها؛ ولو لم تظهر بصيغة «التاكو»، لكانت تبلورت في شكلٍ آخر. ولمجرد التذكير بمعنى «التاكو» فهو يشير أولاً إلى نمطٍ سلوكي لا يمكن إنكاره، يتمثل في إطلاق وعدٍ كبير أو تهديدٍ جريء على صعيد السياسات، ثم التراجع عنه سريعاً، حتى قبل الشروع في مفاوضاتٍ جدية مع الطرف المقابل. وثانياً، يعبر المصطلح عن فكرة سيكولوجية تتعلق بشخصية ترامب: إذ إنه، حين يوضع تحت ضغط ما، يتبين أنه لا يكترث كثيراً بالعديد من الأفكار التي يُفترض أنها تمثل ملامح عهده.
إن ما يريده ترامب فعلياً هو أن يُنظر إليه بوصفه قوياً وناجحاً. فإذا بدا أن سياسةً ما قد تُلحق ضرراً بهذه الصورة، يتراجع عنها. فترامب لا يتمتع، لا أيديولوجياً ولا شخصياً، بأي التزامٍ عميق تجاه أي سياسة. وفيما يتعلق بالنقطة الخاصة بصورة الذات، فمن المنطقي التساؤل عما إذا كان ترامب يختلف كثيراً عن سائر السياسيين في هذا المجال. غير أن ما يُميزه فعلاً هو حجم التهويل والتفاخر في بداياته؛ ومصطلح «التاكو» لا يعدو كونه تذكرةً بضرورة التعامل بحذر شديد مع هذا التهويل.
وأخيراً، فإن مصطلح «التاكو»، كان من وجهة نظرنا يرتبط بالسياسات الاقتصادية، لا سيما الرسوم الجمركية، وأيضاً بتطبيق قوانين الهجرة على سبيل المثال. أما ما إذا كان ينطبق على السياسة الخارجية أو الحروب، فهذه مسألةٌ متروكةٌ للآخرين للتفكير فيها. وفي كل الأحوال، وقبل إعلان وفاة نظرية «التاكو»، من المهم طرح بعض الأسئلة:
هل رأى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن قصف المنشآت النووية الإيرانية يمثل مخاطرة كبيرة قد تضر بشعبيته؟ أم أنه، في ظل الضعف الشديد الذي كانت تعاني منه إيران والمناخ الأمريكي العام المناهض لها، اعتبر أن إلقاء بعض القنابل لن يسبب له أية أضرار سياسية، بل ربما يعزز موقفه؟
الحقيقة أن الإجابة غير واضحة. ولكن إذا لم يكن ترامب يعتبر هذه التحركات العسكرية مخاطرة حقيقية في تقديره الشخصي، فلا يمكن وصفه بـ«صاحب القرارات الجريئة».
سؤال آخر: إذا افترضنا جدلاً أن ترامب أظهر ميلاً للمخاطرة على الصعيد الجيوسياسي، فهل يعني ذلك أن «نظرية التاكو» لم تكن تنطبق أصلاً على السياسات الاقتصادية الداخلية؟ تقديري الشخصي هو أن شهية ترامب للمخاطرة، إن وُجدت، فهي مرتبطة بمجالات معينة دون غيرها. ففي ملف الرسوم الجمركية مثلاً، أرجّح أن استراتيجية «التاكو» لا تزال فعالة، بمعنى أن الأسواق ما تزال تتعامل مع قراراته الاقتصادية على أنها تميل إلى التراجع أو التخفيف بعد ردود فعل قوية.
بموازاة ذلك، وبالنسبة لأسواق النفط، فإنه حتى قبل إعلان ترامب عن وقف إطلاق النار، كانت الأسواق تستبعد بشكل كبير احتمال إقدام إيران على إغلاق مضيق هرمز. وقد بقيت أسعار النفط متماسكة نسبياً طوال يوم الاثنين، لكنها فاجأت المتابعين بانخفاض حاد بنسبة 7 % بعد أن أطلقت إيران صواريخ باتجاه قاعدة عسكرية أمريكية في قطر بوقت لاحق من اليوم نفسه. ورغم أن الضربة الإيرانية الأخيرة ضد أهداف أمريكية قد تبدو في ظاهرها تصعيداً، إلا أن الأسواق والمحللين وحتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فسروها بشكل مختلف؛ باعتبارها إشارة إلى رغبة طهران في التهدئة.
وقد لا يكون الانخفاض في الأسعار ناتجاً عن بصيرة في السوق، أو حتى عن نظرة تفاؤلية. فوفقاً لإيليا بوتشويف من «بنتاثلون إنفستمنتس» يعود انخفاض الأسعار جزئياً إلى ديناميكيات فنية، فالعالم يستهلك يومياً نحو 100 مليون برميل من النفط، لكن السوق تتداول ما لا يقل عن 6 مليارات برميل يومياً.. ومن الملاحظ أن أسعار النفط لا ترتبط بالمخزونات بقدر ما ترتبط بتحركات مديري الأموال وصناديق التحوط».
ويضيف: «في بعض الأحيان، تحدث فجوات في السيولة، عندما لا يكون هناك ما يكفي من المشاركين الفعليين في السوق لأخذ الجانب المقابل في صفقات الكبار.. كما أن منتجي النفط غالباً ما يقومون بالتحوط ضد تقلبات الأسعار [عن طريق شراء خيارات البيع لتثبيت الأسعار المرتفعة، وبيع خيارات الشراء لتمويلها]. وعندما يقترب السعر من سعر التنفيذ، يبيعون العقود الآجلة. وهو ما يُفاقم تحركات السوق.
وبينما كان الجميع يركزون على تأثير إغلاق مضيق هرمز على أسعار النفط، لم يتم توجيه الكثير من الانتباه لمشتقات النفط، خصوصاً الأسمدة، وهو ما توقف عنده ديك مولاركي من شركة «إس إل سي مانجمنت». فوفقاً لشركة كبلر المتخصصة في بيانات التجارة، فإن 33 % من الأسمدة في العالم تمر عبر مضيق هرمز.
وهكذا، فإنه إذا تصاعدت الأعمال العدائية مرة أخرى وتم إغلاق المضيق، فقد نشهد ارتفاعاً في أسعار الغذاء عالمياً يفوق ما تتسبب به عادة أسعار الطاقة المرتفعة على تكاليف الزراعة. وفي الواقع، فقد شهدنا تحرك بعض أسعار السلع الزراعية مع أسعار النفط منذ بدأت إسرائيل هجماتها على إيران.
من جانبهم، يرى عدد من تجار السلع أن سوق السلع الزراعية أيضاً تتجاهل الحرب إلى حد كبير وفقاً لـدان وايت، رئيس قسم الأبحاث في «بلو لاين فيوتشرز»، وزميله أوليفر سلوب. كما أن المنتجين في الولايات المتحدة وغيرها من الأسواق العالمية غالباً ما يثبتون أسعار الأسمدة قبل موسم الزراعة، لذا فإن ارتفاع أسعار الأسمدة لن ينعكس مباشرة على أسعار المحاصيل. والذرة مثال لذلك؛ فقد انخفضت أسعارها في الفترة نفسها، مدفوعة بعوامل العرض.
الاستثناء اللافت هو زيت فول الصويا، الذي سجل ارتفاعاً كبيراً الأسبوع الماضي، أكبر حتى من النفط الخام. ووفقاً لدان وايت، فإن ذلك يرجع جزئياً إلى ارتفاع أسعار النفط والأسواق المرتبطة بالطاقة بسبب إيران، نظراً لاستخدام زيت فول الصويا بشكل شائع في إنتاج الوقود الحيوي.
