بات عدد كبير من المراقبين يظن أن الأسواق المالية لم تعد تكترث بالصدمات الجيوسياسية. فأكبر اقتصاد في العالم يلوح بالانكفاء خلف جدار من التعريفات الجمركية، والحرب لا تزال مستعرة في أوروبا، فيما اندلع منذ 13 يونيو صراع جديد في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يزال مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» قريباً من مستوياته القياسية. كما أن أسعار خام برنت، ارتفعت بشكل طفيف لتحوم حول 77 دولاراً للبرميل، في تحرك محدود لا يعكس حجم التوتر. فهل فقد المستثمرون ارتباطهم بالواقع؟

وبالعودة إلى ردود الفعل التاريخية للأسواق تجاه الصدمات العالمية، يتبين أن الصورة أكثر تعقيداً. فبحسب بيانات جمعها «دويتشه بنك» منذ الحرب العالمية الثانية، عادة ما يتراجع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنحو 6% في الأسابيع الثلاثة التي تلي أي صدمة جيوسياسية كبرى، لكنه غالباً ما يعوض هذه الخسائر بالكامل خلال الأسابيع الثلاثة التالية.

بعبارة أخرى، إذا كان التاريخ مرجعاً، فلا يزال هناك متسع من الوقت لتطور رد فعل السوق تجاه مسار الصراع بين إسرائيل وإيران. وتتجلى كل صدمة جيوسياسية بطرق مختلفة. فقد أدت عملية ضم أدولف هتلر لتشيكوسلوفاكيا عام 1939 إلى انهيار بنسبة 20% في المؤشر الرئيسي للأسهم الأمريكية، واستغرق الأمر أكثر من شهر للوصول إلى القاع. أما هجمات 11 سبتمبر، فقد تسببت في موجة بيع حادة تجاوزت 10% خلال ستة أيام فقط، قبل أن تستعيد الأسواق خسائرها خلال ثلاثة أسابيع.

في المقابل، تسبب الحظر النفطي الذي فرضته الدول العربية عام 1973 عقب حرب أكتوبر في أزمة تضخمية احتاجت الأسواق المتقدمة سنوات للتعافي منها.. كما أن اعتماد أوروبا الكبير على الغاز الروسي أدى إلى ارتفاع التكاليف الصناعية لفترة طويلة بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في فبراير 2022، وقد واصل مؤشر «داكس» الألماني تراجعه حتى أكتوبر من ذلك العام.

فما الذي يمكن استخلاصه من هذه الأحداث؟ إن رد فعل الأسواق عادة ما يتكون من مرحلتين: أولاً، تتعرض ثقة المستثمرين لضربة، ما يدفعهم إلى البحث عن ملاذات آمنة. وثانياً، وبحسب مدى تأثير الحدث اقتصادياً واستمراريته، تبدأ تداعياته في التسلل تدريجياً إلى الأرباح وخطط الاستثمار والأسعار وسوق العمل، الأمر الذي يدفع المتعاملين إلى إعادة تسعير توقعاتهم بشأن مستقبل الاقتصاد.

وفي الوقت الراهن، وأمام صدمتي الرسوم الجمركية والتصعيد في الشرق الأوسط، يحاول المستثمرون تقييم تأثيرهما على الاقتصاد الحقيقي. وقد جرى تفادي موجة البيع الأولية الحادة التي أثارتها رسوم «يوم التحرير» التي فرضها دونالد ترامب بفضل تعليق تطبيقها لمدة 90 يوماً. وتنتهي هذه المهلة في 8 يوليو، مع غياب الوضوح بشأن الخطوة التالية.

أما فيما يخص الحرب بين إسرائيل وإيران، فإن رد الفعل الفوري المحدود، على الأقل مقارنة بالصدمات النفطية التاريخية، يبدو منطقياً. فالدور الذي يلعبه النفط في تزويد الاقتصاد العالمي بالطاقة أصبح أقل أهمية مما كان عليه في سبعينيات القرن الماضي. كما باتت الإمدادات أقل تمركزاً. إذ تمثل صادرات إيران النفطية أقل من 2% من إجمالي الطلب العالمي، كما أصبحت الولايات المتحدة في عام 2020 مصدراً صافياً سنوياً للنفط للمرة الأولى منذ عام 1949 على الأقل.

وقد دفع هذا الأمر المستثمرين إلى التركيز على ما يهم الاقتصاد العالمي أكثر من هذه الأزمة. ويتمثل الخطر الأكبر في احتمال التصعيد، وهو ما قد يؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو خمس الاستهلاك العالمي اليومي من النفط. وحال حدوث ذلك، يرجح محللون أن تتجاوز أسعار الخام مستوى 120 دولاراً للبرميل. حينها، قد تتحول الصدمة السعرية المؤقتة إلى موجة تضخمية مستدامة، ما ستكون له تبعات مباشرة على سياسات البنوك المركزية.

وهذا الوضع يدفع المتعاملين في الأسواق إلى مراقبة تطورات ملفي الرسوم الجمركية والحرب في الشرق الأوسط عن كثب، مع إعادة احتساب احتمالات أسوأ السيناريوهات بشكل لحظي. ولن يتمكن المستثمرون من إعادة تقييم توقعاتهم بشأن الأساسيات الاقتصادية، التي تقوم عليها تقييمات الأصول، إلا عندما تنقشع حالة عدم اليقين.

لكن حتى ذلك الحين، يبقى تاريخ 9 يوليو بمثابة المجهول الكبير. ورغم ما يبدو من صمود الأسواق في الآونة الأخيرة، فإن الجغرافيا السياسية ما زالت تحدث فارقاً في الأسواق، حالما تبدأ آثارها في ضرب الاقتصاد الحقيقي. وقد يتبين في نهاية المطاف أن ما نعيشه اليوم ليس سوى الهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة.