كان الوقت قبيل الفجر في وادي السيليكون عندما وجد الرئيس التنفيذي لشركة «إنتل»، ليب - بو تان، نفسه هدفاً لهجوم مباشر من رئيس الولايات المتحدة. ففي يوم 7 أغسطس، كتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصته «تروث سوشيال»: «الرئيس التنفيذي لشركة إنتل يعاني تضارباً كبيراً في المصالح ويجب أن يستقيل فوراً».
في ذلك الوقت، لم يكن ترامب وتان قد التقيا من قبل، فعلى الرغم من أن قادة شركات تقنية كبرى مثل «إنفيديا» و«إيه إم دي» و«أوبن إيه آي» و«أمازون» و«غوغل» و«بالانتير» سارعوا إلى زيارة ترامب، فإن رئيس واحدة من أعرق شركات الرقائق الأميركية لم يجلس مع الرئيس منذ توليه المنصب في مارس الماضي. وكان سبب الهجوم هو تاريخ تان كمستثمر نشط في الصين قبل انضمامه إلى «إنتل».
السياسة لم تكن في صدارة أولويات تان، البالغ من العمر 66 عاماً، إذ لم يتبرع لحملة رئاسية منذ أكثر من عقدين. وعلى الرغم من تواصله مع عدد محدود من المسؤولين الأمريكيين، بينهم وزير التجارة هوارد لوتنيك، فإن «إنتل» تأخرت أشهراً في تعيين مسؤول رفيع للعلاقات الحكومية في واشنطن بعد استقالة شاغل المنصب السابق.
لكن بعد هجوم ترامب مباشرة، سارعت «إنتل» إلى ترتيب لقاء مع الرئيس، وفقاً لمصدرين مطلعين. ذلك اللقاء، الذي استمر قرابة 40 دقيقة، تحول إلى المحطة الأهم في مسيرة تان المهنية الممتدة لعقود.
وتكشف تفاصيل غير منشورة سابقاً كيف خرج تان، الذي اتهمه ترامب بدعم مصالح صينية، بتعهد حكومي أميركي بالاستثمار بمليارات الدولارات مقابل حصة تقارب 10% من «إنتل». الصفقة منحت الشركة صفة «أكبر من أن تفشل»، وفتحت أمامها أبواب شراكات محتملة مع شركات تسعى لكسب رضا البيت الأبيض، كما أرست سابقة قد تمهد لعصر جديد من السياسة الصناعية الأمريكية القائمة على تملك الدولة حصصاً في شركات استراتيجية.
ومنذ تعيين تان، ارتفع سهم «إنتل» بنحو 80%، متجاوزاً مكاسب مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» وحتى «إنفيديا» خلال الفترة نفسها.
أجرت رويترز مقابلات مع نحو 20 شخصاً من موظفي «إنتل» الحاليين والسابقين، ومستشارين حكوميين، وشخصيات من شبكة علاقات تان في القطاع. وأبدى بعضهم تساؤلات حول امتلاكه الخبرة التقنية الكافية لإعادة «إنتل» إلى صدارة تصنيع الرقائق، أو لصياغة استراتيجية ناجحة في الذكاء الاصطناعي، رغم إشادتهم بقدراته التفاوضية.
فعلى الرغم من أن «إنتل» كانت في طليعة الشركات التي زودت الحواسيب الشخصية الأولى بالمعالجات، فإن سنوات من التعثر سمحت لمنافسين أجانب، مثل «تي إس إم سي» التايوانية، بتجاوزها في تصنيع الرقائق المتقدمة.
وأكد متحدث باسم «إنتل» أن تان لم يحتج إلى إقناع للتواصل مع إدارة ترامب، مشيراً إلى أنه رفع مبكراً ملف الشؤون الحكومية ليكون ضمن مسؤولياته المباشرة، كما أعلنت الشركة في ديسمبر تعيين مستشار اقتصادي لترامب على رأس هذا الملف. من جهته، قال البيت الأبيض إن الرئيس استخدم صلاحياته التنفيذية «لتحقيق أفضل صفقة لدافع الضرائب الأمريكي» وحماية الأمن القومي.
40 دقيقة في المكتب البيضاوي
قبل التوجه إلى البيت الأبيض، لجأ تان إلى حلفائه من قادة التكنولوجيا الذين تربطهم علاقات بالرئيس، من بينهم ساتيا ناديلا (مايكروسوفت) وجنسن هوانغ (إنفيديا)، ليدعموا موقفه، بحسب مصدرين مطلعين. كما أعد روايته الشخصية لإبراز التزامه بالولايات المتحدة، واستعد للإجابة عن أسئلة تتعلق باستثماراته في الصين، التي بلغت نحو 600 استثمار، وبعضها مرتبط بجهات عسكرية، وفق تقارير رويترز.
وحضر اللقاء وزيرا التجارة هوارد لوتنيك والخزانة سكوت بيسنت. وخلال الاجتماع، سأل ترامب تان عن خطته لإنقاذ «إنتل». وكان تان قد أبلغ لوتنيك سابقاً بعدم رغبته في الحصول على منح مباشرة بمليارات الدولارات ضمن قانون «الرقائق» (CHIPS Act). وعندما اقترح ترامب منح التمويل مقابل حصة ملكية حكومية، وافق تان، ليحصل على ضخ نقدي بقيمة 5.7 مليارات دولار، ويصبح الحكومة الأميركية أكبر مساهم في الشركة.
بعد أسابيع، أبرم تان شراكة مع «إنفيديا» استثمرت بموجبها 5 مليارات دولار في «إنتل»، وهو ما احتفى به ترامب علناً.
رئيس تنفيذي بخلفية رأسمال مغامر
وُلد تان في ماليزيا لأسرة تعمل في التعليم والصحافة، وبدأ مسيرته في العلوم الصلبة قبل أن يتجه إلى إدارة الأعمال ورأس المال المغامر في كاليفورنيا. وخلال مسيرته، بنى سمعة قوية كصانع صفقات ناجح، وراكم ثروة تُقدّر بأكثر من 500 مليون دولار.
غير أن مصادر داخل الشركة تشير إلى أن هذه المهارات لا تكفي وحدها لإدارة شركة تصنيع رقائق معقدة بحجم «إنتل»، حيث تتطلب المصانع تقنيات هندسية فائقة الدقة. ومع ذلك، يرى محللون في «وول ستريت» أن تان يمتلك خبرة طويلة في صناعة الرقائق وسجلاً جيداً في تحقيق العوائد.
طوق نجاة... مع تحديات مستمرة
وصف مسؤولون الصفقة مع الحكومة الأمريكية بأنها «طوق نجاة» لـ«إنتل»، إذ فتحت الباب أمام استثمارات إضافية، من بينها استثمار بقيمة ملياري دولار من «سوفت بنك». لكن في المقابل، لا تزال وحدة التصنيع تواجه تحديات تقنية، إذ أفادت مصادر بأن «إنفيديا» اختبرت تقنية «إنتل» المعروفة باسم 18A ثم توقفت عن المضي قدماً.
وأكدت «إنتل» أن تقنياتها المتقدمة «تسير بشكل جيد»، وأنها تشهد اهتماماً قوياً بعملية التصنيع المقبلة 14A.
وبينما يواصل تان عقد الصفقات وإعادة هيكلة الإدارة، يبقى التحدي الأكبر هو إثبات أن هذا الزخم السياسي والمالي يمكن أن يُترجم إلى تفوق تقني يعيد «إنتل» إلى موقع الريادة في صناعة أشباه الموصلات العالمية.
